أستراليا الحوت ونحن النبي يونان

قليلون هم الذين سيحتجّون على ما سأذكر من حقائق في مقالي هذا والمقالات التي ستليه، مدّعين أن المبالغة تعشّش في كل حرف من حروفي.
وكثيرون هم الذين سيرفعون أصواتهم قائلين: انقذونا، انقذونا يا حكام وطننا الحبيب.
الفبركة:
ما من لبناني هاجر إلى أستراليا، إلا واشتغل في الفبركة، مستودع الآليات والبشر، ومأوى معظم سكان أستراليا. فيها يتعارف اللبنانيون، ومنها يستمدّون عمولة جيوبهم التوّاقة دوماً إلى الانتفاخ اللامحدود.
ولكن رغم قذارة العمل، ورغم كثرة ساعاته اليومية ـ 12 ساعة ـ فإن أجر العامل لا يتعدّى السبعين دولاراً في الاسبوع، ناهيك عن الضريبة التي تأخذها الحكومة من العامل، والتي تزيد كلما ازداد دخله.
كما أن حالة الفبارك هنا مثل حالة لبنان بالذات، فربّ العمل يحاول المستحيل كي يتخلّص من عامله قبل مجيء العطلة السنوية.
والأنكى من هذا كله، أن لا تعويض للعامل حتى وإن أمضى أربعين سنة في الفبركة الواحدة، وهذا ما يدل على أن حقوق العامل مهضومة تماماً في أستراليا.
الغلاء:
سألني أحد المغتربين القدامى:
ـ لماذا أتيت إلى هنا؟
فأجبت:
ـ هرباً من الغلاء.
ضحك وقال:
ـ إذن عجّل واهرب قبل فوات الأوان، لأن ما عانيته في لبنان، ستعاني ضعفيه الآن.
قلت:
ـ مستحيل!
قال:
ـ هيّا معي إلى السوق..
قلت:
ـ لا داعي لذلك، فأنا، والله، أصدّقك.
قال:
ـ تصوّر أن أجر العامل العادي 50 دولاراً، ومع ذلك يتحتّم عليه أن يعيش مثل باقي الناس، وإلا نبذه الجميع.
قلت:
ـ ما هم، طالما أنه يوفّر بعض الدراهم.
قال:
ـ مغشوش أنت. افتح أصابع يديك وعدّ معي: 25 دولاراً للإيجار، 14 دولاراً للأكل والخضار، 7 دولارات مصروف سيارة أو تنقلات، ناهيك عن قسطها البالغ 92 دولاراً في الشهر، وميكانيكها البالغ 84 دولاراً في السنة، وتأمينها البالغ 120 دولاراً في السنة، لأن السيارات في أستراليا يجب أن تكون مؤمّنة. 3 دولارات للملابس، 6 دولارات مصاريف شتّى.. وأخيراً، رحمة الله على راتبه الاسبوعي، وفائدة البنك الذي يستدين منه.
**
حسد اللبنانيين:
من يصدّق؟ فمعظم اللبنانيين هنا، يعيشون في حالة يرثى لها من الضغينة والحسد، ولولا صرامة القانون لما توانوا دقيقة واحدة عن الاشتباك، ونقل حزازاتهم القروية والسياسية الى دنيا الاغتراب.
يقول المثل اللبناني المقيم على سفح جبل صنين: الأخ جناح. ويقول المثل اللبناني المشتّت خلف البحار: الأخ عقرب. ولهذا ترى أن من النادر جداً أن تجد أخاً متفّقاً مع أخيه.
وصدقوني إذا قلت إن إحدى الفبارك قررت طرد عامل لبناني بسبب تغيّبه الكثير عن العمل، فما كان منه إلا أن احتج قائلاً: ألم يتغيّب أخي؟ فلماذا لم تطردوه؟.
**
الصحف العربية:
أصعب اختراع في أستراليا هو إيجاد صحيفة عربية مستقلّة، تعبّر عن آراء المغتربين، وتعرّفهم بوطنهم الأم، وذلك باتباع طريقة حديثة، دون اللجوء إلى تصوير معظم الصحف الصادرة في لبنان، حتى وإن كتبت هذه الصحيفة باللغة اللبنانية الدارجة، هذا إذا عجز صاحبها عن كتابتها بلغة عربية سليمة.
وخير شاهد على صحة ما أقول، هو إلقاء نظرة مستعجلة على تاريخ الصحافة العربية في أستراليا.
ففي سنة 1957، حاول السيد شكرالله صقر رئيس جمعية أصدقاء الارزة ـ الكتائب ـ إصدار أول عدد من جريدة "الوطن والمهجر"، مكتوب بخط يده، مما دفع القراء للاستهتار بها، وعدم شرائها، فتوقفت عن الصدور.
وفي أوائل سنة 1963، أصدرت الفتاتان فضة الشدياق وتريز خوري، زوجة السيد حميد بشارة حالياً، جريدة "القمر" بطريقة الأوفست، فأخرجتاها إخراجاً فنياً أنيقاً، مما دفع أصحاب الأقلام الرفيعة لتشجيعها ومساندتها، إلى أن عملت الخلافات العائلية على خنقها في المهد، يضاف إليها زواج إحدى الفتاتين وتركها الصحافة.
أما الخطوة الثالثة، فقد خطاها بعزم وشجاعة السيد غسّان معلوف، رئيس الرابطة الزحلية حالياً، إذ استقدم أحرفاً عربية، واشترى آلات طابعة، وفتح مكتباً، وأصدر جريدة "الهدف"، التي رغم أساسها المتين، لم تتمكن من الصمود أمام اللامبالاة سوى خمسة أشهر ونيّف.
أما مجلة "النور" الشهرية، التي أصدرها في ملبورن، الاستاذ رودولف أبو خاطر، فقد عاشت حوالي الأربع سنوات متتالية، إلى أن عشّش الكسل في عقول المشرفين عليها، فعملوا على توقيفها، رغم مبيعها الجيد، وحصولها على إعلانات هامة.
وفي العام 1968، صدرت في ملبورن أيضاً صحيفة "النهار الأسترالي"، وفي سيدني صحيفة صوت المغترب، وقد صدرتا بادىء ذي بدء بطريقة متقطعة، إلى أن احتجبت "النهار" وبقي "الصوت" مدوياً حتى هذا التاريخ، رغم لجوء ناشره الاستاذ جان سمعان الى الاستعانة بمقالات وأخبار الجرائد والمجلات اللبنانية، كالبيرق والدبور والحوادث، فيلصقها قرب بعضها البعض ويصورها، ويعمل على طباعتها حرفياً مع ما يتوفّر لديه من مقالات كتبت أو حدثت في أستراليا.
ويظهر أن السادة وسيم حمدان، طوني قزي وعلي سنديان، لم يدعوا سنة 1969 تمر دون تجربة صحفية، فأصدروا مجلة "الشرق" الاسبوعية، التي توقّفت بعد أشهر من صدورها.
أما جريدة "التلغراف" الصادرة أوائل سنة 1970، والباقية الى يومنا هذا، فبإمكاننا القول إنها مثل زميلتها اللدودة "صوت المغترب" تعيش على نقل وتصوير جريدة " النهار" البيروتية، بالاضافة إلى بعض ما يكتبه محررها من مقالات عنترية تهاجم النواب والحكام في لبنان، باسلوب ركيك مفكك، لا يمت إلى اللغة العربية بصلة، وهذا ليس عيباً، لأن معظم العاملين بالكتابة هنا، لا يعرفون أن تاء الفعل طويلة، والمفعول به ينصب إجمالاً.
وبناء على المثل القائل: ما في حدا أحسن من حدا. فقد أصدر السيد فؤاد موراني جريدة "نداء الوطن" التي، لولا قدرة القادر، لأرجعته إلى الوطن.
ونظراً لفشل اللبنانيين المتواصل في حقل الاعلام، فقد دبّت الحمية في قلب أحد أبناء الجالية المصرية، فأصدر صحيفة "الأخبار" مدة 6 أشهر غير متتالية، ذاق خلالها مر العلقم، وأصيب بعدها باليأس والجفاف المادي.
وبما أنني أعرّف أبناء الوطن الأم عن المنشورات التي صدرت، وما زالت تصدر في أستراليا، وجب علي أن أذكر جريدة "الحياة" التي عاشت يوماً واحداً فقط، والنشرة الدورية التي تصدرها الجمعية الكفرصغابية، باللغتين العربية والانكليزية، عن شؤون وأحوال أبناء كفرصغاب المقيمين والمغتربين.
**
القمار في استراليا:
إذا سألت أحد القادمين من أستراليا إلى لبنان عن أكثر الأشياء رواجاً في بلاد الصيف الممطر، لأجابك بدون تردد: القمار، وسباق الخيل والكلاب.
ففي سيدني وحدها أكثر من عشرين ألف مكتب مختصّ في استقبال المراهنين وتسجيل رهوناتهم. فكيف الحال لو أحصينا جميع مكاتب الـ TAB الموجودة في أستراليا كلها.
أما الروليت، فلها أماكن خاصة يقصدها المدمنون على ألعاب القمار، فيربحون مرة، ويخسرون مئات المرات، ومع هذا ترى الواحد منهم مثل الهر الذي يتلذذ بلعق دمه.
**
القنصلية اللبنانية:
يوجد في أستراليا، حسب ما ورد في حديث أجرته مجلة الـ (ويمنز داي) مع الآنسة سميرة الضاهر، قنصل لبنان العام في سيدني، حوالي سبعين ألف لبناني، يشرف عليهم ويديرهم سعادة السفير شفيق غرزالدين الذي وطأت قدماه أرض أول بيت لبناني في العاصمة كانبرا.
وصدقوني إذا قلت إن معظم اللبنانيين يفضّلون الانتساب إلى أية قنصلية غريبة، نظراً للإهمال الكثير الذي يعانونه من المشرفين على قنصليتنا العامة في سيدني، وخير شاهد على صحة ما أقول هذه الحادثة التي ضجّت بها الصحف المهجرية في أستراليا، والتي أنقلها حرفياً رغم ركاكة أسلوبها، وأخطائها النحوية والإملائية:
"نزلت زوجة عمي لدار القنصلية العامة، نهار الاربعاء 29/12/71، لإجراء وكالة رسمية لذويها بلبنان، وهناك التقت بالسكرتيرة التي طالعتها بالانكليزية لجهلها العربية، مع العلم أن زوجة عمي لا تفهم الانكليزية بالسهولة، وهكذا لم تستطع أن تهديها لطريق الصواب، عندها خرج السيد خليفة وقال لها: ما معي وقت الآن لأن الساعة هي الثانية عشرة والربع، عودي نهار الجمعة. وهكذا نزلنا معها زهاء سبعة أشخاص، ولم يكن هناك سوى السكرتيرة، التي تزرعت بأن السيد خليفة ذهب إلى البنك، وأن نهار الجمعة 31/12/71 هو شبه عطلة رسمية، وليس من أحد يعمل سوى نصف نهار، مع العلم انه كتب على الباب الدوام من التاسعة صباحاً إلى الواحدة، فعارضناها بذلك، وجرت مناقشات مما دعا أحدنا ليقول لها: الأجدر أن يضعوا إنسانة تجيد العربية لتقوم بالمعاملات في حال غياب المسؤول عن القنصلية، وخاصة أن أغلب المهاجرين يصعب عليها إملاء الطلبات باللغة الانكليزية.
وهكذا انتظرنا حتى عاد المستر خليفة، الذي لم يزعج نفسه بإلقاء السلام، بل عاد إلينا يرقص من الغضب ليقول: لماذا شتمتم السكرتيرة؟ اذهبوا من هنا وعودوا نهار الثلاثاء، أنا ما معي وقت، وغير مستعد لأن أبقى معكم أكثر من الواحدة.
وهنا جرت المناقشات بيننا، فلم يكن من أحدنا إلا أن قال له: لو ذهبنا لأي سفارة أخرى لوجدنا معاملة أفضل من قنصلية بلدنا.
فتركنا القنصلية، لتعود زوجة عمي وتظهر جواز سفرها أمام السيّد فيليب خليفة، وعندها أقام لها المعاملة، بعد أن قال لها: شو رأيك لو هذه السيدة طلبت الشرطة وطلبت إيقافكم؟
هذه هي القصة، وهناك قصص كثيرة من هذا النوع، فنحن لا ندري لماذا أوجدت القنصلية: هل للتسلّط، أم لخدمة المواطنين؟ أم كما تشرف المستر خليفة، لإحضار الشرطة وتحقير أبناء جاليتها كما زعم؟
لذلك نرجوكم كتابة هذه الحادثة على صفحات جريدتكم ـ صوت المغترب ـ لأنها السبيل الوحيد لنا في غربتنا لإسماع صوتنا للإخوان اللبنانيين، ويعرفوا الصورة الحقيقية عن القنصلية والقائمين بأعمالها، بأنهم وجدوا لحضور حفلات التكريم لا لخدمة المواطنين، ثم ليأخذ الحق مجراه ويتسلّم مهام القنصلية من هو أهلاً لمثل هذا العمل النبيل، كما نقوم بتوقيع عريضة من اللبنانيين وإرسالها للمسؤولين بالخارجية اللبنانية".
طبق الأصل.
الامضاء: فوزية معرباني، هدية معرباني، رشيد دوعر، اعتدال دوعر، مصطفى الحسيني، حميد علوش، وفاء الحسيني، نهاد صافتلي، محمد علي معرباني، محمد علي الأيوبي.
**
الأغاني العربية:
إذا سئلت، قارئي، عن أشهر الأغنيات العربية في أستراليا، فلا تقل: حبيتك بالصيف، ع الله تعود، دقي يا ربابة، أو آه يا أم حمادة. بل عد بذاكرتك سنوات إلى الوراء، وقل: ع اللوما، فوق جبالنا، قلبي نازل دق، والطوفان، التي ما زالت حتى الآن تدمي قلوب بعض المهاجرين الطرابلسيين المفجوعين بأعز أبنائهم وأقربائهم وجيرانهم.
ولقد حاولت مراراً معرفة السبب في عدم تجاوب اللبنانيين مع الأغنيات العربية الحديثة، التي تبثها الإذاعات العربية مساء كل سبت وأحد، فيجيئني الجواب بأن معظم هذه الأغنيات منقولة عن ألحان غربية، فلو كنا نحب هذا النوع من الأغاني، لتجاوبنا كلياً مع أحدث الأغنيات الانكليزية، التي تصم الآذان لكثرة إذاعتها.
وهذا بالطبع جواب مقنع.
**
البطالة:
تقول الاحصاءات الأخيرة التي يبثها التلفزيون الأسترالي مساء كل يوم، إن عدد العاطلين عن العمل قد تجاوز النصف مليون نسمة، وذلك بسبب تزايد السكان، وتدفّق المهاجرين من جميع أقطار العالم، وتخفيض العمل في بعض الشركات الكبيرة أو التوقّف عنه، نظراً للغلاء الفاحش القابض على رقاب الجميع، والذي يعمل بصورة تلقائية على كساد بضاعتها.
وقد صرّح رئيس حزب العمال، بأن الحالة التجارية السيئة التي وصلت إليها أستراليا، مردّها عدم إحساس حزب الأحرار الحاكم بآلام الشعب، ووعد الجميع بحياة أفضل إن هم ساندوا حزبه في الانتخابات القادمة.
كما صرّح أحد وجهاء الجالية الايطالية، في مقابلة أجراها معه أحد مندوبي التلفزيون الاسترالي: بأن على الحكومة الأسترالية إما أن تساعد المستوطنين الجدد، وتجد لهم عملاً، وإما أن ترجعهم إلى بلادهم على نفقتها الخاصة.
**
الجمعيات اللبنانية:
إن ما يثلج الصدور حقاً، هو تكاتف أبناء القرية الواحدة، وإنشاء جمعية تحمل اسم قريتهم، وتضمّ معظم الشبّان والشابات، وتشدّهم نحو وطنهم الأم لبنان.
ولكن لو اكتفينا بهذا فقط، لكنّا ساهمنا مساهمة فعّالة في رفع شأن الجالية، وجعلها مفخرة ومثالاً يقتدى به، ولكن الحزازات المحليّة التي نصطحبها معنا، أنّى اتجهنا، تحول دون تقدّمنا.
فمثلاً، أبناء القرية الفلانية، لا يمكن أن يرضوا عن أي شخص من أبناء القرية المجاورة لهم، أو أن يساعدوه في محنته، وذلك لاشتباك قديم دامٍ، حصل بين القريتين على سقي الماء.
كما انه من المستحيل أن تتكاتف وتتضامن كافة الجمعيات اللبنانية في أستراليا، ما دام حب الترؤس والاستزلام يعششان في قلوب المشرفين عليها.
وخير دليل على ذلك، تلك الضجّة التي صمّت الآذان، إثر مغادرة رئيس الجامعة اللبنانية في العالم السيد أنو الخليل، أرض أستراليا، حول عدم الاتفاق بين الجامعة والجالية اللبنانية هنا، رغم الوساطات وتبويس اللحى.
**
القتل والتهديد:
يؤسفني حقاً أن أكتب عن موضوع كهذا، خصوصاً إذا كان يتناول أبناء الوطن الواحد.
والحادثة المؤسفة التي حصلت مع السيد عفيف ناصر الدين وزوجته، وتهديدهما بالقتل، من قبل أشخاص معروفين، لا داعي لذكر أسمائهم، جعلت الناس يشمئزون لدى ذكر كلمة "لبناني".
وخوفاً من تنفيذ ما أقسموا عليه، فقد استنجد السيد عفيف ناصر الدين، رئيس تحرير "صوت فيكتوريا" التابع لجريدة "صوت المغترب" بكبار الشخصيات هنا، وعمل على إرسال رسالة مطولة إلى كل من رئيس الجمهورية اللبنانية ووزير الخارجية والمغتربين، وسفير لبنان في أستراليا، ورئيس الجامعة اللبنانية في العالم وغيرهم.
وهذا هو نص الرسالة، أنقله حرفياً رغم ركاكة الاسلوب:
"حضرة..
للجالية اللبنانية هنا، جمعية لها من العمر ما يقارب "20 عام"، ولا شك انها تملك الحسنات لمصلحة الجالية، وبالمقابل إذا وصلت رئاستها الى من يستغلها لمصلحته الخاصة، سوف يعكس الانتاج، وسوف نجد الكثير من المتاعب التي نحن بغنى عنها.
لهذا، وبعد اطلاعي على مجمل القضايا، وعلى التحالف الحزبي الذي يبعد عن المفهوم الدستوري للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، وللجمعية اللبنانية في فيكتوريا.
بدأت كمسؤول صحفي في ايضاح بعض الحقائق التي أملكها على صفحات جريدتنا، الذي حصل ان السيد "..." رئيس اللجنة التحضيرية المؤقتة، وصاحب مكتب استشاري، قد أرسل ثلاثة من أزلامه، في يوم الأحد الموافق 23/1/1972، الساعة الثالثة والنصف من بعد الظهر.
كلمني هاتفياً المدعو "ج.ف"، أحد الثلاثة، واستدرجني إلى خارج المنزل، بحجّة أنه أضاع الطريق، ولا يعلم كيفية الوصول إلى مسكني.
وبعد وصولي إلى المكان المحدد، وبرفقة زوجتي، أفشل مشروعهم كون زوجتي قد بقيت بالسيارة، إنما اكتفى المدعو "ج.ف" بقوله الآتي:
هذه المرة قد شفقت على زوجتك وابنتك، إنما إذا عدت الكرة وتكلمت عن "...." لسوف أقتلك، وتستطيع أن تخبر المونسنيور بولس الخوري "رئيس الجالية المارونية هنا"، انني سوف ألغم الكنيسة، لأن "....." قد ذكر لي بأنك رجل درزي، ولست على خلاف معه، إنما الذي يدفع لك المال من أجل فضحه سياسياً وتجارياً هما المونسنيور المذكور والقنصل فليفل.
علماً أن علاقتي هنا كصحفي ممتازة للغاية مع جميع أفراد الجالية العربية، ولقد كان ردي للمهدد المذكور سابقاً، ويبقى ردي وإيماني على طريق التهديد والقتل وعصابات شيكاغو.
لذا قد اتصلت بالمباحث العامة في مدينة "بريتون"، وأرسلت تحقيقاً مفصّلاً إلى رئيس المباحث العامة في "فيكتوريا" أعلمه حقيقة الأمر.
وكلمتي إليكم الآن لانقاذ الجالية من المجرمين وأداة الاجرام التي تكاثرت هنا في الآونة الأخيرة، والتي تسبب باضطهاد واستغلال أبناء الجالية، وتحقير اسم لبنان أمام الدوائر المختصة".
وتعليقاً على هذه الرسالة، لا يمكنني إلا أن اهز رأسي أسفاً، وأردد هذا البيت من الشعر الزجلي:
اللبنانيي يا بو العيس
نزعوا الطبخه بالمره
هون اللبناني تلبيس
وأزعر عقلاتو مشرّه
**
البث العربي:
مساء كل سبت وأحد كان ينساب إلى آذاننا صوت ناعم، حملته موجات الأثير عبر محطتي "2CH" و2KY"" الإذاعيتين، ليزرع في نفوس اللبنانيين عبارة طالما تشوّقوا لسماعها، ألا وهي: سافروا إلى لبنان.
ومثلما توقفت من قبل جريدة الهدى النيويوركية عن الصدور إثر جفاف مادي، هكذا توقف برنامج السيدة تريز أبي خطار الاذاعي، فأحدث بذلك فراغاً قاتلاً لا يمكننا التخلّص منه إلا بالرجوع إلى لبنان.
فمن هي هذه السيدة السفيرة، التي عمل طيش حكامنا واستهتارهم، وعدم تفقدهم الجاليات اللبنانية، على طرد صوتها الخالد من أقوى المحطات الإذاعية، وقتل اسم لبنان المغروس في قلوب اللبنانيين والأشقاء العرب، إن لم نقل معظم الأستراليين أيضاً؟
جواباً على هذا السؤال، سندع أحد المغتربين القدامى يروي قصة هذه السيّدة:
"إذا عدت بالماضي إلى ست عشرة سنة خلت، تتمثّل أمامي صورة صبية حلوة في التاسعة عشر من عمرها، يبعثر شعرها الهواء، وهي تجتاز مطار سيدني مع الوافدين إلى أستراليا، واثقة النظرة، شامخة الرأس، مشرقة الوجه، وكأنها أرزة خضراء انتقلت من جبل لبنان الأشم، لتزرع موسم الوعود الطيبة في هذه القارة الشاسعة.
وتمر الأيام، حاملة معها حقيقة ما تصورت، فبرزت معالمها، وأعطت من شبابها وحماسها أطيب الثمار الوطنية، وأحلى مكارم الأخلاق، فلقد أصبحت هذه الصبية، وبعد قليل من الزمن، قبلة أنظار المجتمع عامة، وذلك لما أبدته من تفهّم لرسالتها، وتخطيط لعزيمتها، فانطلقت لتبني مجتمعاً لبنانياً، واضح المعالم، رسالته المحبة والثقافة والسلام.
لقد كان عملها أكبر من عمرها بكثير، وأثقل من أن يحمله عودها الرخص الناعم.
من هذا الإيمان، وهذا الإخلاص، اللذين انفعلت بتفاعلهما، انطلق صوتها على موجات الأثير، ليدخل كل بيت أجنبي، ويعلمه، ويفرض عليه تحسس وجودنا، واحترام رسالتنا المهجرية والعلمية والانسانية، وليدعو الجالية اللبنانية المشتتة إلى التفاهم، والعمل البناء، والحياة الهادئة.
بدأت الصحف الأسترالية الكبرى تبرز أخبار السيدة اللبنانية النشيطة وتتناقلها، فقلبت بذلك موازين ومفهوميّات الأستراليين عن الجالية اللبنانية وكيانها، وقدمت لهم البراهين في حفلاتها السنوية الكبرى، التي كانت تضم بين حدائق قصرها الفخم، وأجنحته، حوالي ألف مدعو، وكانت تحرص على تقديم الطعام اللبناني اللذيذ، والفلكلور الألذ، لتعطيهم الصورة الواضحة عن المجتمع اللبناني.
ومع هذا كله، لم يعجبها مطلقاً ما تكتبه الصحف عنها وعن حفلاتها، لأن ما تبتغيه هو الإشادة بلبنان، وليس بها شخصياً، حتى كان لها ما أرادت، إذ صدرت ذات يوم صحيفة (الصانداي ميرر) حاملة ضمن أربع صفحات كبرى، صور لبنان السياحية، مفصلة أماكنه الأثرية، مشيدة بطبيعته الخلابة، ومبينة أثره الاقتصادي في الشرق الأوسط.
كان لهذا العمل الكبير، الذي لا تقوم به إلا الحكومات المستفيدة منه، ضجة كبرى على الصعيدين اللبناني والاسترالي، فوجهت لها الحكومة اللبنانية، وقتئذ، كتاب شكر على خدماتها الدعائية للبنان".
واليوم أتساءل، بعد أن أنهى المغترب الكريم كلامه، ماذا فعلت الحكومة اللبنانية الحالية إثر تلقيها نبأ توقّف برنامج السيدة تريز بي خطار الإذاعي، عن إتمام رسالته السياحية؟ بالطبع، وبمطلق الصراحة أقول: لا شيء. لأن أنانية الحكم في لبنان، تمنع الحكام أياً كانوا، من الرؤية أبعد من أنوفهم، ورحم الله القائل، وإن كان لا يستأهل: من بعدي الطوفان.
**
ارجموا الغريب:
إذا أردتم تكوين صورة واضحة عن عمليات القتل والسلب والتشويه في أستراليا، ما عليكم إلا أن تتذكروا ماذا حدث في أواخر عهد فخامة الرئيس شارل الحلو وتضربوه بمئة.
وسبب ذلك يعود إلى نفسية الجيل الأسترالي الصاعد، الذي يكره، أشد الكره، وجود أي غريب في بلاده.
وتعبيراً عن قرفه واستيائه، بدأ ينظّم صفوفه بشكل عصابات، ويعمل على الانتقام من كل غريب يصادفه، وخصوصاً إذا كان صاحب شعر أسود وملامح مختلفة، وخير دليل على صحة ما أقول، مقتل الشاب الزغرتاوي طانيوس نعوم، على يد زمرة من (البودجية) أي الزعران.
تتساءلون ولا شك: لماذا لا تحرّك الحكومة الأسترالية ساكناً، طالما أنها تعمل جاهدة على جلب أكبر عدد من المهاجرين الجدد، وترغيبهم بالإستيطان في أستراليا.
على هذا السؤال أجيب: الحكومة، يا أعزائي، عاجزة عن ضبط الأمن بسبب مساحة البلاد الشاسعة، وتعدّد الجنسيات، وعدم الإتيان بدليل واحد يكشف هوية المجرم، لأن القتل يحدث ليلاً وبصورة مفاجئة ومبهمة.
وهذا ما دفع الكثير الكثير من العائلات اللبنانية لضبط مصاريفها، وتحسين أمورها، حباً بالرجوع إلى الوطن، وتأهباً لكل حادث طارىء.
**
حدائق الصغار:
الشيء الوحيد الذي استرعى انتباهي أكثر من اللازم، هو كثرة الحدائق العامة في أستراليا، فما أن تقطع مئة متر حتى تجد حديقة ملآنة بالآباء والأبناء، ومجهزة بكل ما يلزم من وسائل التسلية واللعب والراحة.
أتساءل، أنا المغترب الطازج الذي لم تريّش جوانحه بعد: لماذا لا تعمل الحكومة اللبنانية على إصدار مرسوم يجبر البلديات الضائعة الكسلانة، على إنشاء حدائق للأطفال في جميع القرى اللبنانية.
عفواً، لقد نسيت أن الحكومة اللبنانية مشغولة جداً بحك جلدها، وأن ميزانيات بلدياتنا كافة، مخصصة فقط لرواتب الموظفين والعمال، وكل قرش يبقى، يذهب تلقائياً إلى الجيوب التي لم تنتفخ بعد.
**
الحزازات الانتخابية:
قبيل البدء بالعمل، يجلس العشرات من العمال اللبنانيين أمام باب فبركتهم، فيتحادثون بشتى الأحاديث، ويتبادلون الرأي، ويتجادلون جدال الطرشان، فترتفع أصواتهم حيناً، ويتعاركون أحياناً، وخاصة إذا كان الموضوع يتناول الانتخابات النيابية في الوطن.
فالذي مع رشيد أفندي يعادي الذي مع الدكتور عبد المجيد الرافعي، والذي مع كمال جنبلاط، لا يطيق بأي حال من الأحوال التطلع بوجه الذي مع كميل شمعون. أما الذي مع ريمون إده، فاقتله ولا تقل له: أنا كتائبي.
وليس هذا فحسب ما يضحك، بل أن الجرائد والمجلات العربية الصادرة في أستراليا، بدأت تنشر صور المرشحين للانتخابات، وتدعو المهاجرين للذهاب إلى لبنان، والاقتراع لفلان وفليتان من أصدقائها النواب.
أقترح إجراء انتخابات نيابية كل سنة، لعل الأموال المدفونة في الأرض تتحرك من قمقمها، وتأفرخ في جيوب العمال والفقراء أوراقاً زرقاء من فئة المئة ليرة.
**
العائلة السعيدة:
الدولار، الدولار، الدولار، هو المعبود الاول الذي يتطلع اليه الجميع في هذه الجزيرة المعلّقة بكعب الأرض. فحباً به تشرّدوا، وتعبوا، وسهروا، وتنابذوا، واقتتلوا، لدرجة تمكنني من القول: إن من النادر جداً إيجاد عائلة سعيدة في هذه البلاد.
أما الأسباب فهي:
أولاً: القانون يدين كل أب وأم يحاولان، بداعي التهذيب، ضرب أولادهما، حتى وإن كانوا لا يقوون على السير لوحدهم. لذلك ترى الابن والابنة يهددان والديهما كلما حاولا ردعهما عن أشياء منافية للحشمة، باللجوء الى القضاء وتسليمهما للشرطة. وهذا بالطبع سبب كافٍ يمنع الأب اللبناني صاحب الأخلاق الفاضلة، ووارث العادات اللبنانية الرفيعة، من فرض سيطرته على البيت، وتنفيذ كلمته ساعة يريد.
ثانياً: "شو عم بتقول؟ بدك تكفّي علمك؟ روح انقبر اشتغل وجمّعلك قرشين. أنا مش متكفّل عيشك وعلمك بنفس الوقت".
إذا أحصينا عدد الذين سمعوا هذه الكلمات القاتلة من آبائهم، لانعقدت ألسنتنا من الذهول، فمعظم الآباء، إن لم أقل كلهم، تراهم ينتظرون بفارغ صبر بلوغ أبنائهم سن الخامسة عشر، لزجهم في الفبارك، والحصول على راتبهم الأسبوعي، الذي، كما يقولون، يفك رقبة مشنوق، وهذا مما يساعد على انتشار الأمية بين صفوف جيلنا المغترب الصاعد.
ثالثاً: الأقرباء جميعهم أعداء، مثل يشمل الجميع دون استثناء، لأن مبدأ الدولار يساوي ثلاث ليرات ونصف، يعمي القلوب ويحجرها، ويعمل تلقائياً على إشعال نار الغيرة والحسد بين الزوج وزوجته، والأب وابنه، والأخ وأخيه، ضاربين عرض الحائط باقتتال النسيب والنسيب، وأبناء القرية الواحدة خاصة، والبلد عامة.
رابعاً: الوالد يعمل في الليل، والأم في النهار، والأولاد بعد الظهر، يعني أنهم لا يجتمعون إلا يومي السبت والأحد، فيبدأ كل واحد منهم بعرض شريط مشاكله على الآخرين، فيتعكّر الجو، وتتعالى الأصوات، فينسحب الأبناء والزوجة، ويبقى رب العائلة المسكين يرغي ويزبد، ويلعن ساعة مجيئه إلى أستراليا.
خامساً: الشك، هذا المرض الذي عجز أطباء هذه البلاد عن استئصاله من النفوس، وتطهير العقول من جراثيمه الفتاكة. فالزوج يشك بزوجته إذا تنفسّت أو نظرت إليه أكثر من مرة. والأخ بأخيه إذا زاره واستطاب الجلوس عنده أكثر من ساعتين متتاليتين.
والمضحك المبكي حقاً هو أن جميع الاتهامات بما فيها الثرثرة، ولعب الكشاتبين، وتلفيق الكلام ونقله، تتراكم على رأس كل من يريد أن تكون علاقته حسنة مع الجميع.
أخيراً، وبعد الأسباب الخمسة التي ذكرت، ولمست لمس اليد، وعانيت الكثير منها، لا يسعني إلا أن أردد هذا البيت من الشعر الزجلي:
يا محلى عيشة لبنان
ويا محلى الزعتر بالزيت
بالقليله كيف ما كان
الواحد منّا عندو بيت
الدبور البيروتية، الأعداد 2429، 2430، 2431، 2434، 2435، 2439، 2440، سنة 1972
**