وقعت يا شربل!
أجل وقعت، وفي أقل من دقيقة واحدة، وعرّضت نفسك لشماتة الشامتات والشامتين، ووشوشة الهامسات والهامسين، وذلك إثر موعد، فانتظار، فمرض.
جميلة، رأيتها كضوء القمر المنسكب فوق بحيرة ماء، وخلتها، بادىء ذي بدء، حملاً وديعاً، له فم يأكل وليس له فم يتكلّم، فأعجبتني لدرجة فقدت معها كل اتزاني وخبرتي في الحياة. وأنا، لمعلوماتكم الشخصية، من أولئك المساكين المغرورين، الذين لهم جولات وصولات في عالم الضحك على الذقون، والتلاعب بأفئدة الصبايا، فاقتربت منها، وهمست في أذنها كلمات لا اخالكم تجهلونها، فاحمرت وجنتاها، وتمتمت بصوت منخفض:
ـ وأين تريدني أن ألقاك؟
ـ في المكان كذا..
ـ ولكن عندي شروط وأسئلة كثيرة أود أن تجيبني عنها قبل تنفيذ الاتفاق، وذلك لسبر أغوار نفسك.
ـ كلّي آذان صاغية.
ـ أولاً، من تحب من رجال السياسة عندنا؟
ـ عدّي ورائي: كميل شمعون وكمال جنبلاط، رشيد كرامي وصائب سلام، عبدالله اليافي وريمون إده، بيار الجميل وفؤاد...
ـ كفى، كفى، إنك تمزح!
ـ لا والله لست أمزح، وإنما أتكلّم الجدّ..
ـ طيّب، قل لي: من تحبّ من الوزراء؟
ـ أي وزراء؟
ـ وزراؤنا الشباب؟
ـ لا أحبّ أحداً.
ـ وأنا مثلك.. ومن الممثلين والممثلات؟
ـ قرياقوس ويوسفيّة..
ـ ومن هما، بالله عليك؟
ـ قرياقوس، رجل يديّن بالفائدة، ولا ينام قبل أن يصلّي، وتطفر الدمعة من عينيه لدى سماع خبر محزن، خصوصاً عندما يتأخّر أحدهم عن تسديد كمبيالته.
ويوسفيّة، امرأة تغشّ الحليب، ومع ذلك ترينها عاجزة عن تلبية طلبات ملحّة لشراء الحليب، تردها من أهل قريتنا والقرى المجاورة لنا.
ـ عال، وما اسمك؟
ـ شربل..
هنا، وضعت إصبعها في فمها، وارتسمت على وجهها إمارات التفكير العميق، ثم تطلّعت بي وقالت:
ـ انتظرني في المكان الذي ذكرت، من الساعة الثامنة حتى التاسعة صباحاً، وأنا سآتيك متى سنحت لي الفرصة، لأن أهلي يحصون عليّ خطواتي وأنفاسي، ولكن ثق ستسنح بإذن الله.
قفزت من مكاني كالبهلوان، ورحت أعدو باتجاه البيت، والشعور الذي يغمرني أكبر من أن يوصف. وما أن احتوتني غرفتي حتى غيّرت هندامي، وعطّرت جسمي وشعري، ودندنت للحظات مع مطربنا المتنقل من قارة إلى قارة، ومن بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة، حتّى ومن دسكرة إلى دسكرة، بحثاً عن رزقه ورزق عياله المقطوع هنا، والمرمي في سلة مهملات الدولة.
أجل، لقد دندت مع مطربنا الكبير وديع الصافي هذه الأغنية المنسيّة من زمان:
بالساحه تلاقينا بالساحه
عليها جوز عيون شو دبّاحه
وقامه يخزي العين والخدين
تفّاحه بتغار من تفّاحه
ولكن حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر، لأنني والحق أقول انتظرت من الساعة السابعة والنصف حتى العاشرة صباحاً دون أن تأتي، أو تبعث بمن يعتذر لي عنها.
وصدقوني إذا قلت إن رجليّ تورمتا من الوقوف، وظهري انكسر، ورأسي بات يغلي كالمرجل من شدّة حرارة الشمس الربيعية، ولولا قوّتي البدنية، لكنت الآن في إحدى المستشفيات الرخيصة التي تراعي الظروف، ولا تقبض سلفاً، أو تأبى أن تستقبل مريضاً ما لم يكن مرفقاً ببطاقة توصية من أحد الأطباء الاحتكاريين الجشعين، أو الوزراء الطامعين بالنيابة، أو النواب الخائفين على كراسيهم المدفوع ثمنها من الضياع.
وبينما أنا أجمع شتات أفكاري، اقترب مني صبي صغير وقال:
ـ لك معي رسالة.
فتناولتها من يده بلهفة بالغة، وفضضت الظرف بأصابع مرتجفة، فوجدت بداخله ليرة لبنانية واحدة، وورقة كتب عليها ما يلي:
"هذه اجرة التاكسي، أرجو أن لا تصاب بضربة شمس، وأنصحك متى وصلت إلى البيت، أن ترفع رجليك قليلاً، حتى يتسرّب الدم المتجمع في أسفلهما إلى الشرايين، ومن الشرايين إلى القلب، وعندها تشعر بالراحة والطمأنينة.
واعلم أن الفكرة السيّئة التي كونتموها عنا نحن الفتيات المراهقات عارية عن الصحة تماماً، وهذا خير دليل تلمسه أنت بنفسك، كما أرجو أن تكتب وتنشر هذه الحادثة، ليطمئن الأهل، وليعرفوا أن مستقبل فتياتهم مضمون مئة بالمئة، وكل ما يشاع ويذاع عنهن تفشير وثأثأة ألسنة مريضة".
ألا بارك الله بأمثالك يا فتاتي الطاهرة، لأنك أعطيتني درساً لن أنساه ما حييت.
الدبور البيروتية، العدد 2396، حزيران 1971
**