لست أدري ما سبب الأحلام التي تقضّ مضجعي كل ليلة، وتجعل النوم يطير من عينيّ، لدرجة أن صحتي تدهورت كثيراً من جرّاء ذلك.
تارة أتخيّل نفسي غارقاً في خضمّ من الأحزان، تتقاذفني الأمواج، وتعمي بصيرتي الأنواء، وطوراً أحسب أنني غراب أسود أطلقته يد الحياة من فلكها، ليحمل إليها نبوءات الجوّ، فهام على وجهه، وضاع حيث العميان يبصرون، وهلك شرّ هلاك.
لجأت إلى مفسّري الأحلام، رغم كوني لا أؤمن بهم، فأشار عليّ أحدهم بذبح حمامتين بريتين وشرب دمهما. وآخر، باستعمال الحجاب الواقي من شياطين النوم. وأما الثالث، فنصحني بركوب الخيل قبل الظهر، والسير على الأقدام مدّة ساعة قبل النوم.
وصدّقوني أنني استعملت جميع هذه الأساليب الاحتيالية، وداومت عليها، وآمنت بفعاليتها، ولكن أنّى لي بلوغ مأربي، ألا وهو معرفة سر هذه الأحلام، وكيفيّة التخلّص منها.
وذات يوم أتاني صديق وبيده كرّاسة صغيرة مهترئة، فناولني إيّاها قائلاً:
ـ خذ واقرأ من الصفحة 144 إلى الصفحة 150، واطلب لي التوفيق.
قلّبت صفحات الكتاب لحظة، ثم قلت:
ـ ولمن هذه التحفة الأثرية؟ وما اسمها؟ وفي أي عام طبعت؟
فأجابني، بهدوء غير منتظر، على أسئلتي التافهة هذه، وقال:
ـ صدّقني إذا قلت إنني لا أعرف، ولكن يخيّل لي أنها للأب خير الله اسطفان، نسخها له الياس شمعون الديراني في غزة سنة 1896، واسمها عجالة البيان.
فتحت الكتاب على الصفحات المشار إليها، ورحت أقرأ:
"وجود الأحلام يناط بغيبوبة التصوّر الخارجي عند إغضاء الحواس، فتتغافل حينئذ عن تأثيرات المواضيع القارعة أبوابها. ومن ثم يقدّم الدماغ للروح تصوّرات كاذبة غير كاملة. فالنفس والحالة هي النوم، لا تقدر أن تتروّى بها، أو تحكم عليها حكماً صادقاً لعدم تمكّنها من مقابلتها بأشباهها ومواضيعها الحقيقية. فالتصورات تكون حينئذ غير منتسقة حرة معتوقة لذاتها: فتأخذ المخيّلة، والعقل لا يدري، في أن تجمع بين الممكن والمستحيل، وتتوهّم الكذب صدقاً، وتخلط وتمزج أمكنة بأزمنة، وأشخاصاً بأشخاص.
تتوالى الأفكار بلا ارتباط، وإن تتابعت وانتسقت وارتبطت، فلا ينشأ عنها الحكم الصادق الرابط لفقدان الإرادة ومطاوعة الدماغ للانفعال، وانقياده إليه قسراً.
فإذا تأمّلنا غبّ ذلك بما كنا عليه في رقادنا ومنامنا، علمنا أن النفس كانت مسجونة في الجسم، وممنوعة عن الاشتراك في الخارج، وانها مع ذلك لا تفتأ عن العمل، ولكن على غير نظام، وبدون ضبط وتدقيق بسبب غياب العقل المدبّر للإرادة الموجّهة".
هنا، أتوقّف قليلاً عن القراءة، وانظر بإعجاب إلى صديقي، وأقول:
ـ يظهر أنني لقيت الدواء الناجع.
فيبتسم لي بمحبة وبقول:
ـ أكمل.. أكمل..
وأعود لأغرف من درر هذا الكتيّب النادر، فأقرأ:
"ليس للحلم مواد غير ما يعطاه في اليقظة، فتكون الأحلام تأثيرات جزئية شديدة غير كاملة، بقايا اليقظة، متتابعة في نظام متقطّع وسياق مختلف، مادته تصوّراتنا السابقة. ولنا في حال اليقظة ما يشبه الأحلام، وهو هذيان المخيّلة لدى إطلاقنا لها العنان، فتذهل ساهياً كأنّك ناسٍ ذاتك والهواجس تلاعبك، ولكن لا يلبث العقل أن يقبض على العنان الذي كان مطلقاً.
وإذا أردنا أن نعرف مدى علاقة الحلم مع اليقظة وفرق الحالتين، نرى أن لا اختلاف بين الحالتين، والرابط موجود، فالأنانية الحالمة، والذات الساهرة، تحفظان المماثلة ووحدة الذات. فاليقظى تعدّ للنائمة مواد أحلامها، ولا تركب النائمة أحلامها ما لم تلقّنها اليقظى صوراً هي مواد أحلامها.
الفرق من حيث الرقاد، أولاً: غياب الإرادة وعدم تولّي العقل تدبيرها.
ثانياً: حال النائم حالة أسر واسترقاق، فلا حريّة له، وعليه فهو للانفعال صاغر، فكأنه يهمل نفسه بنفسه، فيمسي ملعباً لأفكاره، وإنما هو الملعب واللاعب ومشاهد المشاهد، ومتى استفاق الهاجع عرف الحق من الباطل.
وللأحلام اختلاف في التصوّر والطبع أوجب قسمتها إلى أربع رتب:
أولاً: الأحلام الجهازية، لأن الجهاز مصدرها، فهذا يهيّج المخيّلة، فتبتدع أشباحاً وخيالات تلازمنا ولا تخلو من أن تكون إما ذات أشجان أو ذات أفراح وملاذ، وعلى أي الحالات تسمّى كابوساً.
ثانياً: الأحلام البصريّة، لأن البصر مصدرها، وهي متوافرة الحدوث كصور الأمكنة التي زرناها والأشخاص الذين عرفناهم.
ثالثاً: الأحلام العقلية، حيث قوّة العقل تلبث على حال شدّتها، وإنما هذا من النوادر، فمن الفلاسفة من برهن حقائق سامية، ومن الحسبة من حل مسائل مشكلة، ومن الشعراء من نظم أشعاراً، ومن الخطباء من ألقى خطباً، فكأن الانسان والحالة هذه يرتفع فوق ذاته.
رابعاً: اليقظة في المنام، نوع نوم يشبه النوم الحقيقي من أوجه، ويختلف عنه من أخرى، فيوقف بعضاً من أعمال الحالم عن الحياة الخارجية، وأما الحياة الداخلية فتتابع أعمالها. قلت بعضاً، لأن الانسان والحالة هي هذه لا ينفصل انفصالاً كلياً عن الأشياء الخارجيّة، فإذا كلّمته يجاوبك، وإن نبهته إلى شيء انتبه. فالنائم الحقيقي لا حكم له بالكليّة على نفسه، وأما "النائميقظان" فبالعكس حيث يظهر أنه يعلم ماذا يعمل وإلى أين يذهب، يمشي في طريق معلوم، وإذ تدعوه ليرجع، حالاً يعود، ولكنه لا يذكر ماذا عمل وأين كان. فتصوراته دون رابط تكون، يعرف الولد صوت والديه وإخوته، فيجاوب: "أنا آتٍ يا.." وما يساعده على عمله هذا الغريب، ثلاثة أشياء على الأخص هي:
1ـ حاسة اللمس، فتكون حينئذ مستيقظة.
2ـ اعتياده سلوك تلك الطريق، وتكرار مراجعة ذاك التصوّر حتى انطبع في المخيّلة، طبعاً لا يمحى، فتفعل أعضاؤه في حال النوم ما اعتادت على عمله في اليقظة.
3ـ تحضير المخيّلة له ما آلف من المواضيع، واتضحت لديه معرفتها وتأكدها تأكيداً قبل الهجوع وذلك بتمام وضوحها".
انتهى الفصل، فهممت بالكلام، ولكن لساني عجز عن الإفصاح بما يجيش داخل قلبي من شكر لهذا الصديق الوفي المخلص، وذلك لأنني وجدته يغطّ بنوم عميق هانىء.
الدبور البيروتية، العدد 2384، نيسان 1971
**