الموت هو الموت، أيّاً كان السبب، وأبو فريد المسكين شمله الموت بعنايته وحنانه، إذ نقله البارحة من هذه الحياة الفانية، ورماه في قبر قد لا أدخله وأنا حيّ، حتى ولو هدّدت بمدفع، وذلك لكثرة عناكبه، وعقاربه، وفئرانه وما شابه.
أتساءل في كثير من الأحيان: لماذا لا يحرق جسد الإنسان إثر وفاته، ويحتفظ الأهل والأقارب برماده في علب زجاجية يعلّقونها على الحائط، وهذا، بالطبع، أفضل بكثير من زجّه في دهليز معتم مخيف، قد "ينقلع" حنكه من مكانه، لو زاره، أو فكّر بزيارته، وهو على قيد الحياة؟.
تتخيّلون، ولا شكّ، انني أدعو لموضة جديدة، والموضة، في مفهومنا اليوم، تعني الانفلات، والانعتاق من التقاليد. حاشا والله، فأنا أدرك تمام الإدراك، إنني عاجز عن تغيير وطمس العادات التي درجنا عليها مذ وجدنا في هذه البقعة الجميلة من الأرض. ولكنني أردت من مقالي هذا أن أصوّر جنازة المرحوم أبي فريد، التي حصل لي شرف مشاهدتها، ونيل نصيبي من لكماتها وحجارتها، وأن أرسم صورة ولو مائية، للأضرار التي قد تسبّبها الحزازات الانتخابية حتى في المآتم.
كنّا مئة شخص وأكثر مجتمعين حلقات حلقات حول منزل الفقيد، وإذا بنا نسمع صوتاً مخنوقاً يقول:
ـ من يودّ أن يساعد في حمل النعش فليتقدّم؟
وبعد قليل، ولولت النساء، وهدرت أصوات الرجال، وعزفت موسيقى الموت، وأطلّ النعش من باب البيت محمولاً على أكفّ سبعة رجال قبضايات.. والظاهر أن حبّ كسب تأييد أهل المرحوم، وعددهم عشرة أنفار، في الانتخابات النيابيّة المقبلة، قد ساهم كثيراً في إضرام نار المروءة في نفوس الرجال السبعة، مما دفعهم للتدفيش، والتلطيش، ولكز بعضهم البعض، وشهر خناجرهم، وتدفئة قبضاتهم، وفرك سواعدهم، وهذا كلّه لا يتم إلا بترك التابوت على الأرض.
ـ ويلاه.. انتبهوا.. الميّت قام!
زأر أحدهم خلفي، وأخذ يركض عكس الاتجاه الذي تسير فيه الجنازة، فتعالت للحال أصوات النساء ممزوجة بجعير وهدير أبنائهنّ وأزواجهنّ:
ـ انتبه يا إندراوس على أخيك، حتّى لا يخاف.
ـ أخ يا رأسي.. من ضربني بالحجر؟
ـ اهربي يا نجيبة قبل أن يؤذيك أحدهم.
ـ قه، قه، قه.. انظروا أم سليمان تركض حافية، يظهر أنها أضاعت قبقابها.
ـ ولاه.. اترك غطاء التابوت، حرام عليك، فقد يصاب المرحوم بكعب سكربينة طائشة.
ـ وصل الدرك.. اهربوا يا ناس.
وكانت هذه العبارة الأخيرة أفضل العبارات التي ذكرت سابقاً، لأن كل من سمعها شمّع خيطه وهرب، ولم يبقَ في الساحة إلاّ شال واحد، ودزينة قباقيب جديدة لمّاعة، وكومة أحجار ملطخة بالدماء، قد تبني برلماناً نيابياً آخر، وتزيد في متانة السد الليطاني الشهير.. وأيضاً، تابوت المرحوم أبي فريد، وخمس نسوة متّشحات بالسواد الظاهري، ومحسوبكم أنا.
ـ اقتربن يا نساء حتّى نجرّ التابوت، فالمقبرة، والحمد لله، قريبة.
صاحت إحداهنّ بعزم شديد، وأخذت تشدّ ذات اليمين وذات اليسار، والتابوت المرعوب القلب، المرتجف البدن، يأبى أن يتزحزح من مكانه، لولا وصول نجدتي، ونجدة رجال الدرك.
وقد تتعجبون إذا قلت إنني الوحيد من بين المشيّعين، الذي دخل بيت خالته مدّة أربعة أيّام متتالية، لإجراء التحقيق معي، وأخذ إفادتي.. ونظراً لأنني كنت مثل الأطرش بالزفّة، فقد أخلوا سبيلي لقاء كفالة مالية، تعتريني رجفة وهزّة حائط كلّما أتيت على ذكرها.
ومن ذلك الحين وأنا أتجاهل كل دعوة تأتيني لتشييع جنازة، أو لحضور عرس، مخافة أن أدخل السجن، ولا أعود أخرج منه إلاّ بكفالة مالية مماثلة.
ألا ليتك تتعثّرين بأذيالك يا انتخابات الربيع القادم، حتّى ننعم، ولو مؤقتاً، براحة البال.
الدبّور البيروتيّة، العدد 2392، أيار 1971
**