رباعيّات فشّار

أقسم بكل ما هو غالٍ على قلبي، بأنني لست بفشّار كما يدّعي البعض، وأنني ما درست التفشير لا في البيت ولا في المدرسة، حتى ولا في الشارع.
ولهذا أرجوك، أيها القارىء العزيز، أن تحكم عليّ بالخيانة العظمى، إذا شممت رائحة تفشير بين طيّات ما سأكتبه لك، وفي نفس الوقت أرجوك أن تغضّ النظر قليلاً، لأنك لبيب، واللبيب من الإشارة يفهم.
ـ1ـ
ما أن وطأت قدماي أرض مطار سيدني، حتّى فوجئت بجمع غفير من الأقارب والأصدقاء يستقبلني استقبالاً منقطع النظير، لدرجة أن أحدهم حاول تقبيل يدي، فزجرته صائحاً:
ـ توقّف يا صاح.. ما أنا إلا إنسان مثلك.
فتمتم بانكسار ظاهر:
ـ أحببت أن أقبّل اليد القادمة حديثاً من لبنان، لأتنشّق من خلال مسامها رائحة الأرز والصنوبر.
وصدّقوني أنني جدّ نادم لرضوخي للأمر الواقع، ولسماحي له بتقبيل يديّ الإثنتين، لأن احمرارهما وتورمهما من جراء تهافت الجميع لتقبيلهما، قد أذاقاني مرّ العلقم.
ـ2ـ
أخي الأكبر يملك ثلاثة بيوت، وابنتين وزوجة. وأخي الأصغر منه يملك أربعة محلاّت تجاريّة، وابنة واحدة، وزوجة في أحشائها جنين ينمو ويكبر.
أما أنا، فقد عرض علي مبلغ ضخم من المال، وبناية في قلب سيدني، وزورق بحري، مقابل أن أتزوّج حفيدة أحد المهاجرين الأثرياء، التي توفي والداها إثر سقوط طائرتهما الخاصة، ومع ذلك رفضت العرض رفضاً قاطعاً، وهددت بقتل كل من يفتح أمامي سيرة الزواج، وحجتي في ذلك أن الفتاة تكبرني بشهرين ونصف، وغير قادرة على إسعادي لجهلها النطق باللغة العربية.
ـ3ـ
طلبت بعد ثلاثة أشهر من دخولي إلى أستراليا للخدمة العسكرية، فثارت ثائرتي، وهاج بي دمي، وأعلنت العصيان على الدولة، فحملت رشاشاً حربياً، وسبع قنابل يدوية، ومسدساً، وتسع دزينات من الخرطوش السام، حتى أقضي قضاء مبرماً على كل من يقترب مني. ومن ثمّ صعدت إلى سطح البيت، وتمركزت وراء متراس، أين منه كافة المتاريس في لبنان.
وحين وصلت أخباري وعنترياتي إلى رئيس الشرطة، جهّز مصفحتين وسيارة نصف مجنزرة، وأخذ يهاجمني المرة تلو المرة، وأنا صامد كالجبل الذي أتيت منه، عندئذ أدرك أن الحوار معي خير علاج لتدارك الأمور قبل استفحالها، فرفع العلم الأبيض، واستأذنني بالاقتراب، وبدأ يسألني وأنا أجيب:
ـ لماذا أعلنت العصيان؟
ـ كي لا أذهب إلى الجيش..
ـ ولكنّك محارب من الدرجة الأولى..
ـ وسأحارب حتى آخر نقطة من دمي..
ـ وهل كنت تفعل مثل هذا لو كنت في بلادك؟
ـ آه كم أنت مسكين ومغفّل! أنا لو كنت في بلادي لاستعملت المدفع بدل الرشّاش، والديناميت بدل الخرطوش، ولرأيت حولي الأزلام والمحاسيب مدججين بالسلاح، وعلى رأسهم زعيم المنطقة، الذي أمنحه صوتي كل أربع سنوات.
ـ ومن أي بلاد أنت؟
ـ أنا من لبنان..
ـ يا ساتر.. إلى الوراء يا رجال.
وهكذا أثبتّ لكل صاحب بصيرة أن الرجل اللبناني من أشدّ الرجال صلابة، يعرف كيف يجابه الأخطار أثناء وقوعها.
ـ4ـ
لكثرة معارفي وتنقلاتي، جمعتني الظروف برجل اسمه "نقولا"، فسبّحت الخالق تعالى الذي جبله من الإسفلت "الزفت" الغالي، وجبلنا نحن من الحوّارة البيضاء الرخيصة. فهو إذا مازحك نطحك، وإذا جادلك قتلك، ومسكين جداً كل من يقترب منه، لأن يديه كمراوح الهواء المصفوفة على طول الشاطىء اللبناني، تارة تغنّجان هذا، وطوراً تنكعان ذاك.
إذا توحّش، أي صار وحشاً، تراه يتخانق مع جميع زملائه، الذين باتوا يتجنبون النظر إليه، متى مني بخسارة نظراً لادمانه على المراهنة في سباق الخيل والكلاب.
أما إذا تدبلمس، أي أصبح دبلوماسياً، فيكتفي بالصياح والنرفزة وشد شعر رأسه.
والمصيبة الكبرى، أن الجميع هنا مثل نقولا بالذات، مرضهم كذبهم واستبدادهم، وعدم اقتناعهم بالأشياء البعيدة عن مفهومياتهم.
ـ5ـ
أخجل كثيراً حين أسمع الناس يتكلّمون عن مهاراتي ومغامراتي في عالم الصيد، وأنا حقاً، بدون أي كنفشة أو كبرياء، صيّاد ماهر، أقلع عين الدوري بخردقة واحدة، مع العلم أنني ما تعوّدت اصطياد الطيور على كافة أنواعها، نظراً لابتعادي عن الجرائم، وقتل الطير، بعرف الجمال، جريمة كبرى، لهذا كان عليكم أن لا تتسرعوا وتحسبوني مثل صيّادي لبنان، الذين يتحملون عبء السفر، ومشاق الطريق، ليتمكنوا، وهيهات يسمح لهم، من اصطياد باشق في بلد شقيق.
وخير شاهد على ادعائي هذا، معرض الحيوانات البريّة الذي صممته بنفسي داخل بيتي، وزيّنته، أو بالأحرى، زوّدته بآلاف الأصناف من الوحوش الضارية، التي قتلتها ببارودتي، كما يقتل الطفل نملة. ولا أبالغ إذا قلت إنني ما اشتريت حيواناً واحداً، مع العلم بأن في معرضي عشرات الأصناف من الحيوانات المنقرضة.
ـ6ـ
لو أن أديسون المخترع الكبير، ما زال حيّاً يروق، لأجبر اللجنة المختصة في منح جوائز زميله المسكين نوبل، على إعطائي جائزة شرفية كبرى، وذلك لاختراعي جهاز "الحياة والموت".
تتساءلون، ولا ريب، عن ماهية هذا الجهاز، وكيفية استعماله، وعن الفوائد التي قد تجنيها البشرية من ورائه.
"الحياة والموت"، يا أعزائي، جهاز صغير يوضع على مسلّة عالية في وسط المدن، ويعمل تلقائياً على قتل كل من يكذب، ونقله إلى العالم الثاني، حيث البكاء وصريف الأسنان، أما الصادق فجزاؤه أغنية لطيفة من تلحين الأخوين رحباني وغناء فيروز.
ولكن، ويا للأسف، هناك مشكلة كبرى تحول دون تنفيذي للمشروع، ألا وهي تلك المآسي والويلات التي قد يجرها الجهاز على المجتمع، وخاصة خراب بيوت بعض العائلات المطمورة بالملايين، وتشريد أبنائها، ومحو السياسيين المراوغين والتجّار الجشعين من الوجود، وهذا، لعمري، قمة في الاجرام وفقدان الضمير.
ـ7ـ
الطبيب العالمي كريستيان برنار الذي توصّل إلى إجراء عملية استبدال قلب مريض منفوخ مثل رأس البطيخ الأحمر، بقلب صغير منمنم، لم يتمكن بعد من اللحاق بي في ميادين الطبّ، بعد أن نجحت معي عملية استبدال رأس هرة برأس كلب.
والحكاية النادرة التي سأرويها لكم الآن، تبدأ حين سمعت كلبي يموء وهرتي تنبح، فأصبت بشبه جنون، وحزنت كثيراً للأمر، لأن من غير المعقول أن أترك ما للكلب للهرة، وما للهرة للكلب. فأخذت، بادىء ذي بدء، بإجراء الفحوصات الأولية على كليهما، فوجدت أن هناك أغلاطاً طفيفة في تكوين رأسيهما، بإمكاني التخلص منها بأقل من ربع ساعة، وذلك بقطع الرأسين واستبدالهما ببعض، بعد أن سقيتهما قنينتين من العرق المثلّث، حتى لا يشعران بألم.
ولكي لا أكون كاذباً، أجدني مضطراً للقول إن صعوبات جمة اعترضت سير العملية وإنجاحها، خصوصاً كيفية لصق الرأسين بعد قطعهما. ولكنني، والحمد لله، تغلبت على هذه الصعوبة، باسنعمالي ماء السكّر اللزج، وتمكنت من إنقاذ الكلب والهرة من عقد نفسية قاتلة، قد تشوّه نسليهما في المستقبل.
الدبور البيروتية، العدد 2460، ايلول 1972
**