.. ومشت متجهة نحو المجهول، تخطّ طريقها بأصابع صغيرة حافية.
الطمع، الاغتصاب، العدوان، جميعها عوامل تكاتفت ورمتها خارج حدود بلادها، وطبعتها بوشم التشرّد.
كلما سارت، تظلّ الدروب بعيدة، ويظلّ الأمل ينأى عنها أكثر فأكثر، والقدر يسخر منها، والذكريات تتطاحن في مخيّلتها وتتكاثف.
كانت قبل الخامس من حزيران، تعمل في حانوت صغير لبيع الخضار، وكانت راضية عن معيشتها كل الرضى، يكفيها فخراً أنها ابنة مدينة القدس، المدينة التي غزل السيد المسيح دروبها بقدميه، وعطّر سماءها بعبير كلماته الإلهية. المدينة التي جبل الرسول محمد تربتها بعرق جبينه ألأسمر.
قالت ذات يوم لأمها:
ـ ثقي يا أماه أن حانوتي هذا، ولو أتانا العدو بكافة آلياته وجنوده، فسوف لن أتخلّى عن شبر واحد منه، وسأحرسه بسكين وفأس.
فأجابتها أمها والدموع تنساب على وجنتيها بكبرياء الصامد رغم فقدان الأمل:
ـ سأصلي لأجلك.. لا تخافي.
ومضت الأيام مسرعة، تجر وراءها الحرب والدمار، وترسم لآلاف من الناس طريق الرحيل عن الديار المهدمة.
الأم تحمل طفلها الصغير وتركض بوجل، وكأنها تخاف عليه من الضياع.
والشيخ يتكىء على عصاه، ويمشي متثاقلاً، والغبار يعشّش في لحيته البيضاء، عكس البيوت المطلية بدخان البارود الأسود.
ونزحت هي أيضاً مع النازحين، بعد أن ماتت الأم، وتهدّم الحانوت، وانكسرت السكين، وضاعت الفأس.
ما هم، طالما أنها حافظت على طهارتها، وخيّبت فأل ذلك الجندي المرعب. فلقد انقضّ عليها انقضاض النسر على الطريدة ليمتص رحيقها البكر، ولينفخ مكانه بعضاً من سم ريقه الزعاف.
ولكن أنّى للثرى الوصول إلى الثريا، وأنّى للمجرم نيل المجد، فشفتاها هما الثريّا والمجد.
ولكي تتخلّص منه صفعته صفعة مؤلمة، فأجفل، وارتدّ عنها مذعوراً، ورحل.
كانت، وهي تسير، تتذكر كل هذه الذكريات وتبكي. تبكي ماضيها الجميل، وحاضرها الأليم، ومستقبلها الضائع.
وفجأة، سمعت صوت طفل مشوّه الوجه، فاقد السمات، عاري الجسم، يقول لها:
ـ هل مررت بوجه مغبّر؟ هل رأيت امرأة تصرخ وتركض، وتصيح: أريد ولدي.. ولدي؟
وضاع الصوت في حلقه، وأبى الخروج.
ـ أجل لقد رأيتها. أوَليست هي من وقفت في ساحة المعركة وقالت للجنود: اصمدوا، فصدورنا دروع، وصلاتنا أمل؟
ـ بلى..
ـ أوَليست هي من سهرت الليالي تحوك الصوف قمصاناً، وتخيط الأغطية للأبطال؟
ـ بلى.. بلى..
ـ أوَليست هي من زحفت في الخنادق وضمّدت جراح المصابين بنيران العدو؟
ـ هي بذاتها..
ـ أوَليست هي أيضاً من حاولوا اغتصابها، ففرت هاربة من وجههم وعلى ظهرها طفل صغير؟
ـ قولي، بربّك، أين هي؟ فالبرد ينخر عظامي، والجوع يشدّني نحو الموت.
ـ أنظر إلى هؤلاء النسوة، حدّق في وجوههن، علّك تتعرّف إلى أمّك، فجميعهن يا حبيبي لهنّ ذات القصة التي لوالدتك.
فتمتم بصوت منخفض: إذن، خذيني معك.
الدبور البيروتية، العدد 2305، أيلول 1969
**
الطمع، الاغتصاب، العدوان، جميعها عوامل تكاتفت ورمتها خارج حدود بلادها، وطبعتها بوشم التشرّد.
كلما سارت، تظلّ الدروب بعيدة، ويظلّ الأمل ينأى عنها أكثر فأكثر، والقدر يسخر منها، والذكريات تتطاحن في مخيّلتها وتتكاثف.
كانت قبل الخامس من حزيران، تعمل في حانوت صغير لبيع الخضار، وكانت راضية عن معيشتها كل الرضى، يكفيها فخراً أنها ابنة مدينة القدس، المدينة التي غزل السيد المسيح دروبها بقدميه، وعطّر سماءها بعبير كلماته الإلهية. المدينة التي جبل الرسول محمد تربتها بعرق جبينه ألأسمر.
قالت ذات يوم لأمها:
ـ ثقي يا أماه أن حانوتي هذا، ولو أتانا العدو بكافة آلياته وجنوده، فسوف لن أتخلّى عن شبر واحد منه، وسأحرسه بسكين وفأس.
فأجابتها أمها والدموع تنساب على وجنتيها بكبرياء الصامد رغم فقدان الأمل:
ـ سأصلي لأجلك.. لا تخافي.
ومضت الأيام مسرعة، تجر وراءها الحرب والدمار، وترسم لآلاف من الناس طريق الرحيل عن الديار المهدمة.
الأم تحمل طفلها الصغير وتركض بوجل، وكأنها تخاف عليه من الضياع.
والشيخ يتكىء على عصاه، ويمشي متثاقلاً، والغبار يعشّش في لحيته البيضاء، عكس البيوت المطلية بدخان البارود الأسود.
ونزحت هي أيضاً مع النازحين، بعد أن ماتت الأم، وتهدّم الحانوت، وانكسرت السكين، وضاعت الفأس.
ما هم، طالما أنها حافظت على طهارتها، وخيّبت فأل ذلك الجندي المرعب. فلقد انقضّ عليها انقضاض النسر على الطريدة ليمتص رحيقها البكر، ولينفخ مكانه بعضاً من سم ريقه الزعاف.
ولكن أنّى للثرى الوصول إلى الثريا، وأنّى للمجرم نيل المجد، فشفتاها هما الثريّا والمجد.
ولكي تتخلّص منه صفعته صفعة مؤلمة، فأجفل، وارتدّ عنها مذعوراً، ورحل.
كانت، وهي تسير، تتذكر كل هذه الذكريات وتبكي. تبكي ماضيها الجميل، وحاضرها الأليم، ومستقبلها الضائع.
وفجأة، سمعت صوت طفل مشوّه الوجه، فاقد السمات، عاري الجسم، يقول لها:
ـ هل مررت بوجه مغبّر؟ هل رأيت امرأة تصرخ وتركض، وتصيح: أريد ولدي.. ولدي؟
وضاع الصوت في حلقه، وأبى الخروج.
ـ أجل لقد رأيتها. أوَليست هي من وقفت في ساحة المعركة وقالت للجنود: اصمدوا، فصدورنا دروع، وصلاتنا أمل؟
ـ بلى..
ـ أوَليست هي من سهرت الليالي تحوك الصوف قمصاناً، وتخيط الأغطية للأبطال؟
ـ بلى.. بلى..
ـ أوَليست هي من زحفت في الخنادق وضمّدت جراح المصابين بنيران العدو؟
ـ هي بذاتها..
ـ أوَليست هي أيضاً من حاولوا اغتصابها، ففرت هاربة من وجههم وعلى ظهرها طفل صغير؟
ـ قولي، بربّك، أين هي؟ فالبرد ينخر عظامي، والجوع يشدّني نحو الموت.
ـ أنظر إلى هؤلاء النسوة، حدّق في وجوههن، علّك تتعرّف إلى أمّك، فجميعهن يا حبيبي لهنّ ذات القصة التي لوالدتك.
فتمتم بصوت منخفض: إذن، خذيني معك.
الدبور البيروتية، العدد 2305، أيلول 1969
**
