من كل ذقن شعرة

ولعنت أم كلثوم
أجل، لعنتها.
وأعرف أن عشّاق صوتها سيلعنونني مئات بل آلاف الأضعاف من المرات، عندما يقرأون عنوان مقالي هذا، ولكنهم لو تابعوا القراءة، لأشفقوا عليّ، ووقفوا إلى جانبي، وقالوا بصوت واحد، مثل فهيم ونعيم:
ـ يا حرام.. كم هو مسكين!
وإليك، عزيزي القارىء، حكايتي مع أم كلثوم.
أصبت إثر حادث غريب بكسرين، الأول في يدي اليمنى، والثاني في رجلي اليسرى، فلزمت الفراش مدّة عشرين يوماً، وأنا أتبرّم من الحالة التي وصلت إليها، وأتأفف من الضجر.
وذات يوم، زارني صديق عزيز عليّ، فأقام في ضيافتي يومين، أذاقني خلالهما مر العلقم.
وصديقي هذا يعلم تماماً مدى شغفي بصوت أم كلثوم، وانني أذهب إليها ولو أقامت حفلاتها على سطح المرّيخ، فأراد أن يمتحنّي بعد غياب طويل، فدخل إلى غرفتي هائجاً مائجاً وصاح:
ـ ولو يا أستاذ، أم كلثوم تغنّي في التلفزيون وأنت نائم؟ قم.. قم.. أسرع..
وغاب عن بالي أن الجفصين يكسوني، والوجع يتغلغل في شراييني، فنفضت عني الغطاء، ونهضت مسرعاً للغاية، كي لا يفوتني مقطع واحد من أغنيتها، ولكن ما أن وطأت قدماي أرض الغرفة حتى صرخت من الألم، وانبطحت على بطني وأنا أستغيث به، وهو يضحك ملء شدقيه ويقول:
ـ إي حرّك حالك يا جبان، يا حيف على الشباب.
وهنا تملّكني الغضب، ولم أعد قادراً على ضبط أعصابي، فلعنت أم كلثوم، والتلفزيون، بحضوره طبعاً، وعندما تركنا، زوّدته بقنطار من الفلفل والبهار.
**
محاضر آخر زمان
دعيت مؤخّراً للإستماع إلى محاضرة يلقيها كاتب شاب بعنوان "فلسطين اليوم".
وما أن استتب بي الجلوس على مقعد مزعج للغاية، حتى أطل علينا أخونا وسط تصفيق حاد، مما يدل على كثرة أزلامه ومحاسيبه.
وبعد التحيّة والسلام والسؤال عن غالي صحته وصحتنا، قال:
ـ تعرفون، ولا ريب، مدى الانتفاضات العالمية التي أحدثها التدخل الأميركي في كمبوديا، وهذا دليل وعي تقدمي، حضاري، بإمكاننا أن نعتز به نحن الشرقيين للصلة الأخوية، الدموية، الاستعمارية والامبريالية التي تربطنا بكمبوديا.. عاشت كمبوديا.
وعلا الهتاف والصياح من كل جانب، مما أزعج بعض الحضور، فخرجوا من القاعة وهم "يطبطبون على السكّيت" كلمات ضاعت بين شفاههم.
وعاد حضرته إلى الكلام، بعد ابتسامة مصطنعة قائلاً:
ـ سلوني بماذا أفكّر؟
ولما لم يجبه أحد، تنهّد وقال:
ـ آه، لكم هم رجعيون أولئك الذين انسحبوا. قولوا معي: فلتسقط الرجعية.
وإذ بأصوات كأنها هدير طائرة هليكوبتر تردد:
ـ فلتسقط الرجعيّة.. فلتسقط الرجعيّة.
وهنا، تعود عملية الانسحاب من جديد، ولكن بكميّة أوفر، حتى لم يبقَ في القاعة غير أربعين شخصاً من بينهم أنا بالطبع.
عندئذ، وقف المحاضر، وأخذ يحدّق بوجوهنا، وعندما اطمأنّ إلى عدم وجود أي غريب بيننا، والظاهر أنه لم ينتبه لوجودي، قال:
ـ هيئتهم أخذوها عن جد، ولذلك أرجو منكم كشف كل ما يهدّد وحدة الصف العربي، وتصبحون على خير.
**
توني الساخر
هو "توني سابا" الناقد المعروف في مجلة "الساخر"، وكان قد تناول بأسلوبه اللاذع، ديواني البكر "مراهقة"، ودعاني لإلقاء أشعاري في "مسرح فاروق"، ويقال أن هذا الاسم مستعار، كونه يعمل مستشاراً لأحد الرؤساء اللبنانيين".
أتسخر مني يا ابن الضحكة الساحرة، المنشقة من قلب الملل، الطالعة كالفجر من وادي القرف العميق؟
ساخر.. وفي سخريتك بوح عندليب غارق حتى أذنيه في كروم الثقافة والأدب.
ناقد.. وفي نقدك مديح ورفعة لكل من تتلفظ باسمه، وتبثّه من رأس يراعك على ورقة بيضاء جذلى، كونها تلامس أناملك وباطن كفّك.
كن كالرعد، لنشعر بالسكينة والهدوء.
كن جارحاً، كن دامياً، ولا تخشَ شيئاً، لأن أشواكك ورود، وجراحك ثغور فتيات رائعات الحسن والجمال.
ما رأيت إنساناً مثلك، يذهب إلى مسرح فاروق، ويعود منه وهو في كامل قواه العقلية.
أنت نادر يا أخي "توني"، لأنك تجمع بين الصحو والمطر، بين الخريف والربيع، ولأنك قادر أيضاً على إضحاك الشخص من كل قلبه، حتى ولو كنت تغمز من قناته في سخريتك الجارحة بغنج ودلال.
الدبور البيروتية، العدد 2347، تموز 1970
**