مجلس نواب القرية

يوجد في قريتنا مجلس دائم، ينعقد مساء كل يوم، وذلك لمحاسبة النواب والوزراء، وتقييم أعمالهم، وعرضها على بساط البحث، ونقدها نقداً يعجز عنه واضعو أسئلة البكالوريا اللبنانية، نظراً لتشعّب الاتجاهات السياسية، وارتباط البعض منّا بأحزاب وتكتّلات نيابية، قد لا تخطر على بال أحد.
بالأمس، كنت كلما وجدت المجلس الكريم منعقداً، استلقي على ظهري من شدّة الضحك، وأقول للموجودين حولي:
ـ روحوا خبّروهم أن الشعب لن يرضى عنهم، ولن يعطيهم ثقته ما لم يوقفوا تيّار الهجرة، ويقضوا على كوليرا البطالة في لبنان.
ولكنني عدت فغيّرت رأيي في الموضوع، وعملت المستحيل كي أدخل في جوهم المتلبّد، الممطر ويلات ونقمات على الحكم والحكّام، فتقدّمت بطلب انتساب للمجلس، ورجوت (ريّسه) أن يعمل على إقناع النوّاب وحثّهم على قبول شاب مثقّف بينهم، لسانه قصير، وفعله كبير، (ويشيل الزير من البير) حسب تعبير الشيخ يوسف، الخبير بالتقاط الموجات الصوتيّة على الراديو، وهو، سيرة وانفتحت، أول من سمع البلاغ رقم واحد الذي بثّته إذاعة ليبيا، إثر الانقلاب العسكري الفاشل على الملك حسن عاهل المغرب.
أطلقت طلقين من مسدسي، ورحت أرقص من شدّة الفرح، عندما وصلني خبر فوزي بكرسي النيابة المحليّة، بأكثرية صوت واحد، كان، ولسوء الحظّ، مبحوحاً، وغير قادر على النطق. وللحال تجمهر آكلو الجبنة حول بيتي، وراحوا يرددون بصوت عالٍ:
شربل بك لا تهتم
عندك زلم بتشرب دم
شربل بك نيّالك
بتربّي الهول رجالك
وكنت كلما رجوتهم أن يكفّوا عن الصياح، تعلّقوا بأذيال ثوبي، وراحوا يشدونني بعنف ويغنّون:
وينك يا خيّال نزال
وخلّي السيف يشرقط نار
خيالك بيوقّع خيّال
حصانك ملّى الساحه غبار
علماً منهم بأنني من طينة زعماء الوطن الحقيقيين، الذين يدفعون دم قلوبهم مقابل هيصة ورقصة أمام قصورهم الشامخة المصابة، في هذه الأيام، بداء الوحدة والضجر.
وهكذا بين ليلة وضحاها، أصبح محسوبكم من وجهاء القرية، بيتي ملك الجميع، ونبع قهوتي لا ينضب، وبتّ أشتري كل خمسين (كروس) من الدخان دفعة واحدة، ولا أقدر أن أنام قبل بزوغ الفجر.
والغريب في الأمر أن زوجتي لم تتأفّف من هذا كلّه، بل طالبتني بدزينة أثواب جديدة، وعشر سكربينات، وعقد، وثلاث إسوارات، وخادمة تساعدها في جلي الصحون، وإعداد القهوة، وتقديمها للضيوف، والسهر على راحتهم، كي لا ينرفزوا ويزعلوا منا.
مرّ شهر على انتسابي لمجلس نوّاب القرية، وحالتي المالية تنتقل من سيىء إلى أسوأ، لأن كرمي زاد في عدد الطفيليين العائشين على حساب أمثالي من المساطيل البالعين ألسنتهم، خوفاً على مراكزهم بين الناس، وتحسّباً لكل ردّة فعل من ألسنة زوجاتهم، سيّدات المجتمع الأورستقراطي. فبلغ مجموع ما دفعته ثمن حاجيّات متنوعة "5000 ل ل"، ومازات "600 ل ل"، وكاتو "950 ل ل"، وقهوة وشاي ويانسون ودخان "1110 ل ل"، ومشروبات روحيّة "390 ل ل".
الغاية، أنني دفعت مبلغ ثمانية آلاف ليرة لبنانية، وأنا أعلم تماماً أنني لم أدفع شيئاً بعد، لأن تدفق "المحبّين" على كوخي المتواضع، أشبه ما يكون بتدفّق إنذارات البنك الذي أقرضني المال، بعد أن استرحمت مديره، وأخبرته قصّتي، والحالة المبهدلة التي سأصل إليها إن لم أفتح يدي للناس قبل قلبي، لأن ما يهمهم هو الكسب المادي، وليس العواطف المهترئة، كما يسمّون التضحية الروحية والاخلاص بالحب.
وأخيراً طفح الكيل، فانفجرت كقنبلة المولوتوف المصنوعة على اليد، وطردت من بيتي جميع الموجودين وأنا أصيح بهم:
ـ بيتي بيت (النزاهة) يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة (للسماسرة).حاولت زوجتي الوقوف في وجهي، بغية منعي من تنفيذ خطّتي المدروسة، حسب ادعائها، فأدخلتها الحمّام، وأقفلت عليها، وتابعت عملية الطرد بثورة جسدية لاهبة، حتى لم يبقَ أحد على الإطلاق، عندئذ أطلقت سراحها، فخرجت كالمجنونة وهي تهذي:
ـ هل طردت الصانعة؟ هل طردت النسوة أيضاً؟ يا دلّي.. كيف سأواجههن بعد اليوم؟ أين الصانعة.. أريدها الآن؟
وأخذت تبكي وتندب حظّها العاثر، وتحاول استدرار عطفي وحناني، ولما أعيتها الحيلة، تطلعت بي وقالت:
ـ مبسوط يا خواجة؟فأجبتها بقهقهة عالية:
مبسوط.. وقلبي فرحان
كيف خلصنا من البلوه
وما عدنا نصرف دخّان
ولا عدنا نطحن قهوه

الدبور البيروتية، العدد 2402، آب 1971
**