هذه وريقات اعتراف، أو بالأحرى مذكرات، كتبها طالب لم يفصح عن اسمه، ومنذ عدّة أيام وجدتها في دفتر مهمل، فبعثت فيها الحياة من جديد، لأني على يقين تام من أنها تحمل أفكاراً، كثيراً ما تراودنا، ونعجز عن الإفصاح عنها لسبب ما.
ـ1ـ
وقفت لأجيب المعلّم عن سؤال وجهه إليّ، قال:
ـ لخّص الحياة بعبارة واحدة، أو بالأحرى، عرّف الحياة بكلمات معدودة؟
فقلت:
ـ الحياة واحة لا مجال للحقد فيها، ونافذة ما أن تفتح حتى يعاد إقفالها.
وجلست. لكن الزميل الذي يجلس بجانبي لكزني، وقال ساخراً:
ـ قل هذا لجماعتك.
فسألته متعجباً:
ـ جماعتي! ومن هي جماعتي؟
فلم يجب.
ـ2ـ
للحقيقة أن كلمات حسين جعلتني في دوّامة من الحيرة والتفكير.
ماذا يقصد؟
أتعني عبارته تلك شيئاً؟ أم قيلت على أساس المزاح واللهو؟ من يدري؟
ولكنني قررت أن أستفهم أكثر.
ـ3ـ
ـ هل من جديد؟ سألته.
أجاب: لا.. وأنت؟
قلت: ليس عندي من جديد، لأنني أفتّش عن الماضي.
قال: وهل يعجبك الماضي لدرجة التفتيش عنه؟
قلت: الماضي كناية عن ذكريات لا تدمي، أما الحاضر فحقائق ترعب، وتجرح، وتميت.
قال: أهذه فلسفتك؟
قلت: لا، بل هذه عقليتي.
ـ4ـ
طلبت منه القيام بنزهة، فوافق، شرط أن لا أكلّمه بالسياسة مطلقاً، خوفاً، وهكذا قال، من أن أبثّ فيه روح الانهزامية والاستعمار.
ـ5ـ
لدى نزولنا من السيارة، سألني:
ـ لِمَ أنتم ضدّ التجنيد الإجباري؟
فأجبت:
ـ معاذ الله، فأنا أول من سيحمل البندقيّة دفاعاً عن أرضه، ولكن ليست الحرب، اليوم، بجمع الجنود وحشدهم، بل باقتناء آلات حربية حديثة، وتدريب اختصاصيين عليها، فطيّار واحد، قال بيار الجميّل، أفضل من ألف جندي.
ـ وفلسطين هذه المسكينة، قالها بحدة وألم، لِمَ لا تؤيّدون فدائييها الأبطال، الذين لا يرضون الذل أبداً؟
فقلت:
ـ يظهر أنك لا تقرأ إلا الجرائد اليسارية المتطرفة، لذا سآتيك بما قاله بعض أركان الحلف الثلاثي بهذا الصدد:
قال الشيخ بيار الجميل: " إن اللبنانيين مجمعون على تقديس العمل الفدائي، والسمو به إلى أعلى المستويات في سبيل قضية نعتبرها عادلة ومحقّة".
وقال أيضاً:
"إن شباب الكتائب يتبرعون بالدم للفدائيين، وهذا عمل إيجابي، أما الهتافات العدائية، والشعارات والتظاهرات الاعتباطية، فهي لا تخدم أولاً وأخيراً سوى مصلحة العدو".
وقال الرئيس كميل شمعون في خطاب له:
"فلسطين لنا، والقدس لنا، والشرق العربي شرقنا به نفخر ونعتز".
ـ6ـ
ـ وجمال عبد الناصر لِمَ لا تحبّونه، وهو.. وهو؟
قلت له باستغراب ظاهر:
ـ ومن قال إننا لا نحبه؟
أجاب:
ـ تلك التظاهرة التي دعت إليها أحزاب الحلف استنكاراً لتدنيس العلم اللبناني. قالوا إن العلم ديس ومزّق، والحقيقة أنه لم يحصل شيء من هذا القبيل.
قلت:
ـ وما الذي حصل إذن؟
قال:
ـ علّقت فوقه صورة الرئيس جمال عبد الناصر فقط!
قلت:
ـ وهل يريد الرئيس عبد الناصر ذلك؟ هل يريد أن تعلّق صورته فوق علم الجمهورية العربية المتحدة؟
قال:
ـ لا وألف لا.. فهو عزيز النفس أبيّها، لا يرضى بمثل هذه السخافات أبداً.
قلت:
ـ إذن كيف تريدنا نحن أن نرضى بها، على حساب شرفنا وأسمى قدسياتنا، علمنا المفدى؟
قال:
ـ لو أنكم تحبّونه فعلاً، لما كنتم تقفون جانباً كلما قمنا بتظاهرة تأييد له، وكأنكم لستم من أبناء العروبة؟
قلت:
ـ إن مظاهر التأييد والاعجاب لا تظهر بالمسيرات الضخمة، والخطب الرنانة، بل بالسكوت والعمل المثمر أيضاً. وأعتقد أن جميع الرؤساء يفضّلون السكوت على الضجيج، والعمل المثمر على التظاهرات والاضرابات التي تشلّ حركة البلاد، ولا تخدم سوى مصالح العدو.
ـ7ـ
سألني:
ـ من تحب من السياسيين بغضّ النظر عن الحزبيّات الضيّقة؟
فأجبت على الفور:
ـ أحب الذين يحبّون لبنان.
فنظر إليّ نظرة عتاب وقال:
ـ والعروبة، ألم تخطر ببالك؟
قلت مبتسماً:
ـ لبنان، يا عزيزي، قلب العروبة النابض، فلا حياة لقلب دون جسم يقيه شرّ الطامعين بدمائه.
ـ8ـ
قال لي فجأة:
ـ انتظرني.. فسأعود بعد قليل، لن يطول غيابي.
فسألته:
ـ إلى أين؟ أيمكنني مرافقتك؟
فأجاب:
ـ كلاّ.. فأنا ذاهب لأصلي.
قلت:
ـ سأذهب معك.
قال:
ـ مستحيل..
قلت:
ـ ولماذا؟
قال:
ـ أنسيت أنك ماروني مسيحي؟
قلت:
ـ أمحرّمة علينا نحن الصلاة في الجامع؟
قال:
ـ لا.. ولكن هناك شروط يجب تنفيذها قبل بدء الصلاة. انتظرني ريثما أعود.
قلت:
ـ إسمع يا صديقي: بإمكانك أن تبقى أنت هنا، أما أنا فسأذهب وأصلي..
فقال:
ـ لا تعنّد..
قلت:
ـ وأنت لا تغضب الله..
قال:
ـ أمري له..
قلت:
ـ بل كلنا له.
ـ9ـ
ـ أتدري يا حسين، إني بدخولي الجامع زدت إيماناً وتقوى، فلقد بتّ أشعر أن خطيئة مميتة قد غفرت لي. أتعرف ما هي؟ إنها خطيئة التعصّب.
ـ10ـ
ـ حسين.. هل دخلت الكنيسة يوماً؟
ـ كلاّ..
ـ وهل ستدخلها؟
ـ أجل.. فعمّا قريب سأرد لك الزيارة.
ـ11ـ
تنهد وقال:
ـ السياسة!
ـ دعنا منها يا حسين..
ـ السياسة هي التي تفرّقنا..
ـ والتفاهم هو الذي يجمعنا..
ـ أجل.. التفاهم..
ـ آه لو يحدث بين زعماء هذا الوطن المسكين.
الدبور البيروتية، العدد 2314، تشرين الثاني 1969
**
ـ1ـ
وقفت لأجيب المعلّم عن سؤال وجهه إليّ، قال:
ـ لخّص الحياة بعبارة واحدة، أو بالأحرى، عرّف الحياة بكلمات معدودة؟
فقلت:
ـ الحياة واحة لا مجال للحقد فيها، ونافذة ما أن تفتح حتى يعاد إقفالها.
وجلست. لكن الزميل الذي يجلس بجانبي لكزني، وقال ساخراً:
ـ قل هذا لجماعتك.
فسألته متعجباً:
ـ جماعتي! ومن هي جماعتي؟
فلم يجب.
ـ2ـ
للحقيقة أن كلمات حسين جعلتني في دوّامة من الحيرة والتفكير.
ماذا يقصد؟
أتعني عبارته تلك شيئاً؟ أم قيلت على أساس المزاح واللهو؟ من يدري؟
ولكنني قررت أن أستفهم أكثر.
ـ3ـ
ـ هل من جديد؟ سألته.
أجاب: لا.. وأنت؟
قلت: ليس عندي من جديد، لأنني أفتّش عن الماضي.
قال: وهل يعجبك الماضي لدرجة التفتيش عنه؟
قلت: الماضي كناية عن ذكريات لا تدمي، أما الحاضر فحقائق ترعب، وتجرح، وتميت.
قال: أهذه فلسفتك؟
قلت: لا، بل هذه عقليتي.
ـ4ـ
طلبت منه القيام بنزهة، فوافق، شرط أن لا أكلّمه بالسياسة مطلقاً، خوفاً، وهكذا قال، من أن أبثّ فيه روح الانهزامية والاستعمار.
ـ5ـ
لدى نزولنا من السيارة، سألني:
ـ لِمَ أنتم ضدّ التجنيد الإجباري؟
فأجبت:
ـ معاذ الله، فأنا أول من سيحمل البندقيّة دفاعاً عن أرضه، ولكن ليست الحرب، اليوم، بجمع الجنود وحشدهم، بل باقتناء آلات حربية حديثة، وتدريب اختصاصيين عليها، فطيّار واحد، قال بيار الجميّل، أفضل من ألف جندي.
ـ وفلسطين هذه المسكينة، قالها بحدة وألم، لِمَ لا تؤيّدون فدائييها الأبطال، الذين لا يرضون الذل أبداً؟
فقلت:
ـ يظهر أنك لا تقرأ إلا الجرائد اليسارية المتطرفة، لذا سآتيك بما قاله بعض أركان الحلف الثلاثي بهذا الصدد:
قال الشيخ بيار الجميل: " إن اللبنانيين مجمعون على تقديس العمل الفدائي، والسمو به إلى أعلى المستويات في سبيل قضية نعتبرها عادلة ومحقّة".
وقال أيضاً:
"إن شباب الكتائب يتبرعون بالدم للفدائيين، وهذا عمل إيجابي، أما الهتافات العدائية، والشعارات والتظاهرات الاعتباطية، فهي لا تخدم أولاً وأخيراً سوى مصلحة العدو".
وقال الرئيس كميل شمعون في خطاب له:
"فلسطين لنا، والقدس لنا، والشرق العربي شرقنا به نفخر ونعتز".
ـ6ـ
ـ وجمال عبد الناصر لِمَ لا تحبّونه، وهو.. وهو؟
قلت له باستغراب ظاهر:
ـ ومن قال إننا لا نحبه؟
أجاب:
ـ تلك التظاهرة التي دعت إليها أحزاب الحلف استنكاراً لتدنيس العلم اللبناني. قالوا إن العلم ديس ومزّق، والحقيقة أنه لم يحصل شيء من هذا القبيل.
قلت:
ـ وما الذي حصل إذن؟
قال:
ـ علّقت فوقه صورة الرئيس جمال عبد الناصر فقط!
قلت:
ـ وهل يريد الرئيس عبد الناصر ذلك؟ هل يريد أن تعلّق صورته فوق علم الجمهورية العربية المتحدة؟
قال:
ـ لا وألف لا.. فهو عزيز النفس أبيّها، لا يرضى بمثل هذه السخافات أبداً.
قلت:
ـ إذن كيف تريدنا نحن أن نرضى بها، على حساب شرفنا وأسمى قدسياتنا، علمنا المفدى؟
قال:
ـ لو أنكم تحبّونه فعلاً، لما كنتم تقفون جانباً كلما قمنا بتظاهرة تأييد له، وكأنكم لستم من أبناء العروبة؟
قلت:
ـ إن مظاهر التأييد والاعجاب لا تظهر بالمسيرات الضخمة، والخطب الرنانة، بل بالسكوت والعمل المثمر أيضاً. وأعتقد أن جميع الرؤساء يفضّلون السكوت على الضجيج، والعمل المثمر على التظاهرات والاضرابات التي تشلّ حركة البلاد، ولا تخدم سوى مصالح العدو.
ـ7ـ
سألني:
ـ من تحب من السياسيين بغضّ النظر عن الحزبيّات الضيّقة؟
فأجبت على الفور:
ـ أحب الذين يحبّون لبنان.
فنظر إليّ نظرة عتاب وقال:
ـ والعروبة، ألم تخطر ببالك؟
قلت مبتسماً:
ـ لبنان، يا عزيزي، قلب العروبة النابض، فلا حياة لقلب دون جسم يقيه شرّ الطامعين بدمائه.
ـ8ـ
قال لي فجأة:
ـ انتظرني.. فسأعود بعد قليل، لن يطول غيابي.
فسألته:
ـ إلى أين؟ أيمكنني مرافقتك؟
فأجاب:
ـ كلاّ.. فأنا ذاهب لأصلي.
قلت:
ـ سأذهب معك.
قال:
ـ مستحيل..
قلت:
ـ ولماذا؟
قال:
ـ أنسيت أنك ماروني مسيحي؟
قلت:
ـ أمحرّمة علينا نحن الصلاة في الجامع؟
قال:
ـ لا.. ولكن هناك شروط يجب تنفيذها قبل بدء الصلاة. انتظرني ريثما أعود.
قلت:
ـ إسمع يا صديقي: بإمكانك أن تبقى أنت هنا، أما أنا فسأذهب وأصلي..
فقال:
ـ لا تعنّد..
قلت:
ـ وأنت لا تغضب الله..
قال:
ـ أمري له..
قلت:
ـ بل كلنا له.
ـ9ـ
ـ أتدري يا حسين، إني بدخولي الجامع زدت إيماناً وتقوى، فلقد بتّ أشعر أن خطيئة مميتة قد غفرت لي. أتعرف ما هي؟ إنها خطيئة التعصّب.
ـ10ـ
ـ حسين.. هل دخلت الكنيسة يوماً؟
ـ كلاّ..
ـ وهل ستدخلها؟
ـ أجل.. فعمّا قريب سأرد لك الزيارة.
ـ11ـ
تنهد وقال:
ـ السياسة!
ـ دعنا منها يا حسين..
ـ السياسة هي التي تفرّقنا..
ـ والتفاهم هو الذي يجمعنا..
ـ أجل.. التفاهم..
ـ آه لو يحدث بين زعماء هذا الوطن المسكين.
الدبور البيروتية، العدد 2314، تشرين الثاني 1969
**