هو يحلق، أنت تحلق، أنا أحلق.. ولعنة الله على الساعة التي طبّقت بها هذا الفعل اللعين، يوم دخلت دكّان حلاق في إحدى القرى النائية، بناء لرغبة الصديق الذي استضافني عنده مدّة أسبوعين متتاليين، تدلّت بهما غرّتي حتى باتت كجمّ البلان، تغطي جبهتي، وتدخل شعيراتها في عينيّ ومنخرَي، مما دفعني للتعطيس المتواصل، ولإزعاج الآخرين.
لهذا كله جازفت ودخلت مستودع المناجل والمقصّات الأثرية والمكانس التي يفرشون بها الذقون بعد طليها بالصابون المعتّق في أقبية المنازل، غير عابىء بما سيصيب أذنيّ من تقطيع وتشويه.
وكان صديقي كلما رآني أتراجع وأحاول الهرب، زعق في وجهي قائلاً:
ـ ولو، ولو.. أنت خائف؟ أفلا تدري أن الخوف يذلّ صاحبه؟ رحم الله القائل:
عيشة بالذلّ لا أرضى بها
وجهنّم بالعزّ أفضل منزلِ
وبدلاً من ان يلهب حماستي، هذا البيت من الشعر الآتي على ذكر الموت وجهنم، جعلني أرتعش كالورقة العالقة في مهب الريح، وأتصبّب عرقاً بارداً، ولا أقوى على الوقوف طويلاً، نظراً للرجفة التي أصابت رجليّ. وهنا لا بد لي من توجيه الشكر لله، لأنني ما أن دخلت الدكان، حتى وجدت، بعونه تعالى، صندوقاً قديماً شبه مهترىء، فجلست عليه رغم موسيقاه المزعجة "حيق.. زيق.. زيق.. حيق" التي اقتبسوا عنها الموسيقى العربية الحديثة.
وما هي إلا لحظات حتى أطلّ مسبّع الكارات، وبيده مطرقة وازميل، فهشّ لي وبشّ، وعرّفني بنفسه على هذا النحو:
ـ عبدك، عبد ربّك، سليمان.. سليمان المولود من مرتا زوجة كنعان.. كنعان بن إندراوس الفاشيطي. أشتغل سنكريّاً، وخيّاطاً، وحدّاداً، وطبيب أسنان، وقارىء بخت، وقابلة قانونية، وفي بعض الأحيان.. حلاقاً. والآن أعطني ذقنك..
ـ انتظر.. انتظر.. أرجوك.. كم تودّ أن أدفع لك؟
ـ لن نختلف..
ـ قل كلمة..
ـ أنا لست كحلاّقي بيروت وطرابلس، أضحك على الزبون، وأقول له: أنت وشرفك.. أعوذ بالله، هنا السعر محدود، نصف ليرة بدون زيادة ولا نقصان.
ـ وما رأيك لو شذذنا عن القاعدة هذه المرة؟
ـ كيف يعني؟
ـ يعني أن أدفع لك بدل النصف ليرة خمس ليرات..
ـ هيئتك ابن ذوات..
ـ ولكن على شرط..
ـ وما هو؟
ـ أن لا تحلق لي..
ـ يا ساتر.. اكمشه يا صالح..
وفجأة انقضّ عليّ رجل كان مختبئاً وراء ستار، ومتأهباً لمثل هذه الحالات التي كثيراً ما تحدث، فكبّل يديّ، ومن ثمّ ربطني على قنطرة الدكان، وشزرني بعينيه وصاح:
ـ تحرّك إذا كنت تقدر..
والحقّ أقول إنني لم أستنجد بأحد من المارّة، حتى ولا بصديقي العزيز الذي راح يصفّر برتابة لحن أغنية: "يا حلاّق عملّي غرّة"، إلاّ عندما حمل سليمان بن كنعان الفاشيطي مقصاً لتقليم الأشجار، وبدأ في جزّ الغرّة والشاربين، وزرع جمجمتي بالقطن الأسود لكثرة استعماله.
ولمّا انتهى من عمليّته الجراحية هذه، تنهّد، وبسمل، وصلّى، وربّت على كتفي قائلاً:
ـ هناك كم شعرة لم يلحقها المقص، إذا لم تكن مستعجلاً سأريحك منها.
وما أن سمعته يقول هذا، حتى نهضت مسرعاً، وكان النسر صالح قد أطلق حريتي، وخرجت من دكانه وأنا أصيح بصوت مبحوح:
مزرعة القطن كبيره
إعمل معروف
تركلي شي بوره زغيره
إزرعها صوف
الدبور البيروتية، العدد 2399، تموز 1971
**