أردت، وللمرّة الأولى، أن أسهر داخل البيت، فطلبت من زوجتي إعداد عشاء فاخر، وتحضير مازة تقول للقلب طقّ. وقمت بدوري، ففتحت التلفزيون، ويداي ترتجفان خوفاً من أن يطلع عليّ بعبع أصلع، يزعقني صوتاً ترتجّ من هوله جنبات الدار.
وبالفعل، حدث ما توقعت، فقد كان غاستون أول الظاهرين على الشاشة المسكينة، وعلى شفتيه تكشيرة، لو رآها الجاحظ، لشكر المولى تعالى على نعمة الجمال التي بها عليه.
والحقّ أقول إنني تصورت نفسي وجهاً لوجه مع غاستون، فشمّرت عن ساعديّ، واستعدّيت لتوجيه لكمة إلى حنكه، تكون كافية لإخراسه.
ولكنّ زوجتي وصلت في الوقت المناسب، وصاحت بي:
ـ ماذا تفعل؟ قف..
فأجبتها والنرفزة بادية على محياي:
ـ اتركيني عليه، حتى أعلمه كيف..
فابتسمت ابتسامة بريئة وقالت:
ـ سأريحك منه تماماً.
الحاصل أنها أطفأت التلفزيون، وانتظرت قليلاً حتى عاد هدوئي إلى قواعده سالماً، فدعتني إلى تناول العشاء.
وما أن لامست قعدتي أرض الكرسي، حتى فتح باب البيت دون استئذان، والظاهر أن زوجتي نسيت المفتاح في الخارج، ودخل منه رجل مربوع القامة، متوسط الحال، وأخذ يحدّق بوجهينا حيناً، وبالمآكل الشهية أحياناً.
حسبته بادىء ذي بدء شيطاناً، جاء يجرّبني، ولكنه ما أن أمسك بلقمة الخبز، حتى أدركت أنني أمام ضيف ثقيل، حملته الأقدار ورمته داخل بيتي.
ظلّ يأكل ويأكل، ونحن نتفرّج عليه ببلاهة المشدوه، حتى امتلأ بطنه، وبان كرشه، ونقر نقرتين على صدره كأعظم دقّاقي الطبول، وتنحنح بغبطة المنتصر على أعدائه، ثم حمل الكنبة، ووضعها في وسط الغرفة وصاح قائلاً:
ـ فنجان قهوة مرّة، مع علبة دخان تهريب، لأنني متعوّد عليه.. بسرعة.
رمى بفرمانه هذا في الهواء، واتجه نحو التلفزيون، فكبس زرّ الإضاءة، بالرغم من استغاثتي واسترحامي له، وعاد فجلس على عرشه مكتوف الرجلين، وركوة القهوة المرّة التي أتت بها زوجتي بسرعة البرق، تتأفف على يمينه، وعلبة الدخان تئنّ على يساره، حتى انقضاء السهرة.
غزا النعاس عينيّ زوجتي، فهمست في أذني:
ـ ماذا تنتظر.. عجّل تخلّص منه، أريد أن أنام؟
بلّعت بريقي قبل أن أقف ثلاث مرّات متتالية، ثم اقتربت من البعبع الحقيقي ببطء، ووضعت يدي على كتفه وقلت:
ـ تفضل قم ونم معنا..
فحدجني بنظرة فيها الكثير من المعاني الرديئة، وتمتم:
ـ إيه.. ما في عندي مانع..
وهنا رعد الغضب و زمجر في داخلي، فأمسكت بالضيف ورميته أرضاً، وأنا أصيح:
ـ ناوليني يا امرأة المسدس، المترليوز، الكلاشينكوف، الخنجر.. ولا تنسي أن تفتحي الباب على مصراعيه كي لا يهرب.
وما أن فتحت الباب، حتى أطلق لرجليه العنان، وفرّ هارباً، ونحن نضحك لهذه السهرة الجهنمية المفزعة.
الدبور البيروتية، العدد 2384، نيسان 1971
**